للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي لَا يَحْنَثُ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: ٢٦] . إلَى قَوْلِهِ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: ٢٩] .

وَقَالَ فِي زَكَرِيَّا {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: ١٠] . إلَى قَوْلِهِ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ١١] . وَلِأَنَّ الْكَلَامَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْإِشَارَةِ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ شَيْءٌ مَسْمُوعٌ، وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» وَالْإِشَارَةُ بِخِلَافِ هَذَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: ٤١] . قُلْنَا: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنْهُ، فَيُقَالُ: مَا كَلَّمَهُ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَيْهِ.

[فَصْلٌ كَلَّمَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِقَصْدِ إسْمَاعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ]

(٨١٦١) فَصْلٌ: فَإِنْ كَلَّمَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، بِقَصْدِ إسْمَاعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ تَكْلِيمَهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ زِيَادًا، فَلَمَّا أَرَادَ زِيَادٌ الْحَجَّ، جَاءَ أَبُو بَكْرَةَ إلَى قَصْرِ زِيَادٍ فَدَخَلَ فَأَخَذَ بُنَيًّا لِزِيَادٍ صَغِيرًا فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي؛ إنَّ أَبَاكَ يُرِيدُ الْحَجَّ، وَلَعَلَّهُ يَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ، فَيَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّسَبِ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ. ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ تَكْلِيمًا لَهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ قَاصِدًا لِإِسْمَاعِهِ وَإِفْهَامِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَبَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إيَّاكِ أَعْنِي فَاسْمَعِي يَا جَارَة

<<  <  ج: ص:  >  >>