فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْت إنْ اغْتَسَلْت أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْت، ثُمَّ صَلَّيْت بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا عَمْرُو، أَصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْته بِاَلَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْت: إنِّي سَمِعْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: ٢٩] . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» . وَسُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ كَالْجَرِيحِ وَالْمَرِيضِ، وَكَمَا لَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ عَطَشًا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا فِي طَلَبِ الْمَاءِ.
وَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرٍو، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَمَرَهُ بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمَرِيضَ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ. وَالثَّانِيَةُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِعَادَةَ كَنِسْيَانِ الطَّهَارَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَيُفَارِقُ نِسْيَانَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَضَرَ مَظِنَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ، وَدُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، بِخِلَافِ السَّفَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعِيدُ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
[مَسْأَلَة قَالَ إذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتَ]
(٣٧٥) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتَ إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ، وَالتَّطَوُّعَ إلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى) الْمَذْهَبُ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَدُخُولِهِ، وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا عَلَّقَ بُطْلَانَهُ، بِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى تَجَوُّزًا مِنْهُ، إذَا كَانَ خُرُوجُ وَقْتِ الصَّلَاةِ مُلَازِمًا لِدُخُولِ وَقْتِ الْأُخْرَى، إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَقْتُ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مُنْفَكًّا عَنْ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمُتَيَمِّمِ، قَالَ: إنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، أَوْ يُحْدِثَ؛ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُنُبِ.
يَعْنِي قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا ذَرٍّ، «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ بَشَرَتَك» . وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِالْوَقْتِ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute