أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا، وَلَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَالْعَالِمَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الْحَادِثَةِ. وَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا اجْتَهَدَ، فَأَرَادَ الْآخَرُ تَقْلِيدَهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَجْتَهِدَ، سَوَاءٌ اتَّسَعَ الْوَقْتُ، أَوْ كَانَ ضَيِّقًا يَخْشَى خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَالْحَاكِمِ، لَا يَسُوغُ لَهُ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ اجْتِهَادِهِ، أَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ. وَأَشَارَ إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ، فِيمَنْ هُوَ فِي مَدِينَةٍ، فَتَحَرَّى، فَصَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي بَيْتٍ يُعِيدُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ، قَالَ: فَقَدْ جَعَلَ فَرْضَ الْمَحْبُوسِ السُّؤَالَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فِي الْمِصْرِ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى الْقِبْلَةِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، مَعَ اتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي حَقِّهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِضِيقِ الْوَقْتِ، مَعَ إمْكَانِهِ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
[فَصْلٌ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ]
(٦٢٢) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ، فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِصَاحِبِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْتَقِدُ خَطَأَ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا رِيحٌ، وَاعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاةِ الْآخَرِ.
فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اقْتِدَاءَهُ بِهِ اخْتِلَافُ جِهَتِهِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُسْتَدِيرِينَ حَوْلَهَا، وَكَالْمُصَلِّينَ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُصَلِّي فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ، إذَا كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . مَعَ كَوْنِ أَحْمَدَ لَا يَرَى طَهَارَتَهَا، وَفَارَقَ مَا إذَا اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَثَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينًا حَدَثُ نَفْسِهِ، لَزِمَتْهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ وَهَاهُنَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، فَافْتَرَقَا.
فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ يَمِينًا، وَيَمِيلُ الْآخَرُ شِمَالًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامَ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ، وَقَدْ اتَّفَقَا فِيهَا.
[مَسْأَلَة إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ وَمَعَهُمَا أَعْمَى]
(٦٢٣) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتْبَعُ الْأَعْمَى أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ) يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَعَهُمَا أَعْمَى، قَلَّدَ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُهُمَا عِنْدَهُ وَأَصْدَقُهُمَا قَوْلًا، وَأَشَدُّهُمَا تَحَرِّيًا؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ إلَيْهِ أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَصِيرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْأَدِلَّةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَرْضُهُ أَيْضًا التَّقْلِيدُ، وَيُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قَلَّدَ الْمَفْضُولَ، فَظَاهِرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute