وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ، وَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا أَرَى الْحَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ وَالشَّتِيمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْحَدُّ عَلَى مَنْ نَصَبَ الْحَدَّ نَصْبًا.
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ الزِّنَا، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ. وَإِنْ فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالزِّنَا، فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا.
[فَصْلٌ التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ]
(٧٢٢٣) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: مَا أَنْتَ بِزَانٍ، مَا يَعْرِفُك النَّاسُ بِالزِّنَا، يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ. أَوْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِزَانٍ، لَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَرَوَى عَنْهُ حَنْبَلٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ حَدٌّ وَلَا غَيْرُهُ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَالتَّصْرِيحِ بِهَا، فَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ، وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي الَّذِي قَالَ لِصَاحِبِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَقَالُوا: قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ بِصَاحِبِهِ. فَجَلَدَهُ الْحَدَّ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: إنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ، أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ. يُعَرِّضُ لَهُ بِزِنَا أُمِّهِ. وَالْوَذْرُ: قِدْرُ اللَّحْمِ. يُعَرِّضُ لَهُ بِكَمَرِ الرِّجَالِ وَلِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهَا، كَالصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إلَى الْقَذْفِ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَذْفًا.
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ، أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَةِ آخَرَ: قَدْ فَضَحْته، وَغَطَّيْت رَأْسَهُ، وَجَعَلْت لَهُ قُرُونًا، وَعَلَّقْت عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَفْسَدْت فِرَاشَهُ، وَنَكَّسْت رَأْسَهُ. وَذَكَرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute