الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» .
وَلِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ مَعَهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى حَاضِرٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَسْتَحْلِفْ مَعَهَا.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَوْفَى مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ مَلَّكَهُ الْعَيْنَ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَادَّعَى ذَلِكَ، لَوَجَبَتْ الْيَمِينُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِغَيْبَتِهِ، أَوْ عَدَمِ تَكْلِيفِهِ، يَجِبُ أَنْ يَقُومَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِيمَا يُمْكِنُ دَعْوَاهُ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَائِبِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مِنْ الِاحْتِيَاطِ.
[فَصْلٌ قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنِ]
(٨٣٠٢) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إذَا قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنٍ، سُلِّمَتْ إلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ، وَوُجِدَ لَهُ مَالٌ، وُفِّيَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، فِي رَجُلٍ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ سَهْمًا مِنْ ضَيْعَةٍ فِي أَيْدِي قَوْمٍ، فَتَوَارَوْا عَنْهُ: يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ، شَهِدُوا أَوْ غَابُوا، وَيُدْفَعُ إلَى هَذَا حَقُّهُ.
لِأَنَّهُ يَثْبُت حَقُّهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَيُسَلَّمُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ خَصْمُهُ حَاضِرًا.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُدْفَعَ إلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلًا أَنَّهُ مَتَى حَضَرَ خَصْمُهُ، وَأَبْطَلَ دَعْوَاهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ، لِئَلَّا يَأْخُذَ الْمُدَّعِي مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يَأْتِيَ خَصْمُهُ، فَيُبْطِلَ حُجَّتَهُ، أَوْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، أَوْ تُمْلَكَ الْعَيْنُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ بَعْدَ ذَهَابِ الْمُدَّعِي وَغَيْبَتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، فَيَضِيعَ مَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ دَابَّةٌ مَسْرُوقَةٌ، فَقَالَ: هِيَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ: إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا لَهُ، تُدْفَعُ إلَى الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ فَيُثْبِتَ.
[فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَاخْتَفَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]
(٨٣٠٣) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَاضِرُ فِي الْبَلَدِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، إذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْحُضُورِ، فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي وَجْهٍ لَهُمْ: إنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ، أَشْبَهَ الْغَائِبَ عَنْ الْبَلَدِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ، كَحَاضِرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَيُفَارِقُ الْغَائِبَ الْبَعِيدَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ سُؤَالُهُ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ، أَوْ تَوَارَى، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، جَوَازُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ؛ لِمَا