وَهُوَ عَقَدَ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِهِ مَلَكَ أَخْذَهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِعِوَضٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ، وَيُفَارِقُ الْمَغْصُوبَ، وَالْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا الْمُقْتَرِضُ، فَلَهُ رَدُّ مَا اقْتَرَضَهُ عَلَى الْمُقْرِضِ، إذَا كَانَ عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَنْقُصْ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَكَمَا لَوْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقْتَرِضَ قَبُولُ مَا لَيْسَ بِمِثْلِي؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهِ يُوجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَرُدَّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ كَالْمَبِيعِ.
[فَصْلٌ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَة بِبَدَلِهِ فِي الْحَال]
(٣٢٥٧) فَصْلٌ: وَلِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَأَوْجَبَهُ حَالَّا كَالْإِتْلَافِ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ تَفَارِيقَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً؛ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ حَالٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا حَالَّةً، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً. وَإِنْ أَجَّلَ الْقَرْضَ، لَمْ يَتَأَجَّلْ، وَكَانَ حَالًّا. وَكُلُّ دَيْنٍ حَلَّ أَجَلُهُ، لَمْ يَصِرْ مُؤَجَّلًا بِتَأْجِيلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَتَأَجَّلُ الْجَمِيعُ بِالتَّأْجِيلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» .
وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ وَالْإِمْضَاءِ؛ فَمَلَكَا الزِّيَادَةَ فِيهِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَرْضِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ كَقَوْلِنَا، وَفِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ كَقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَقْتَضِي جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ، وَالْقَرْضُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي عِوَضِهِ، وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ الْوَاجِبِ فِيهِ الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَأَجَّلْ، وَبَقِيَّةُ الْأَعْوَاضِ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهَا، فَجَازَ تَأْجِيلُهَا.
وَلَنَا، أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ، حَالًّا، وَالتَّأْجِيلَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَوَعْدٌ، فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْطِ، وَلَوْ سُمِّيَ، فَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالْعَارِيَّةِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَلَنَا، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا زِيَادَةٌ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ، وَأَمَّا الْإِقَالَةُ: فَهِيَ فَسْخٌ، وَابْتِدَاءُ عَقْدٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ الْقَبْضُ لِمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، وَالتَّعَيُّنُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ.
[فَصْلٌ قَرْضُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ]
(٣٢٥٨) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَاضَ مَالَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُون وَالْأَطْعِمَةِ جَائِزٌ. وَيَجُوزُ قَرْضُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute