وَالثَّانِي، لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ، فَلَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَعْصِيَةِ؛ كَالْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْحَدِيثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ» . وَهَذَا لَمْ يَرَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
[مَسْأَلَةٌ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى]
(٧٩٩٤) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْيَمِينِ كَلَامٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. مَعَ يَمِينِهِ، فَهَذَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَدْ اسْتَثْنَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً، وَأَنَّهُ مَتَى اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ لِمَ يَحْنَثْ فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى أَبُو دَاوُد: «مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» وَلِأَنَّهُ مَتَى قَالَ: لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَتَى شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ، بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ، وَلَا يَسْكُتُ بَيْنَهُمَا سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، فَأَمَّا السُّكُوتُ لِانْقِطَاعِ نَفَسِهِ أَوْ صَوْتِهِ، أَوْ عَيٍّ، أَوْ عَارِضٍ، مِنْ عَطْسَةٍ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ الرَّأْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى» وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَقِيبَهُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ، فَاعْتُبِرَ اتِّصَالُهُ بِهِ، كَالشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا، وَلِأَنَّ الْحَالِفَ إذَا سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ يَمِينِهِ، وَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . وَلَمْ يَقُلْ: فَاسْتَثْنِ. وَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كُلِّ حَالٍ، لَمْ يَحْنَثْ حَانِثٌ بِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا. قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» إنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ بِالْقُرْبِ، وَلَمْ يَخْلِطْ كَلَامَهُ بِغَيْرِهِ.
وَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ مِثْلَ هَذَا، وَزَادَ قَالَ: وَلَا أَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ. يَعْنِي مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute