فَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ عَدُوَّهُ. وَلِلشَّافِعِي فِي اعْتِبَارِ رِضَائِهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ. وَهُوَ يَحْكِي عَنْ الزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحَوَالَةُ، فَأَشْبَهَ الْمُحِيلَ. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ مَقَامَ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى رِضَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَالتَّوْكِيلِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . وَلِأَنَّ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُوَفِّيَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ، وَقَدْ أَقَامَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّقْبِيضِ فَلَزِمَ الْمُحَالَ الْقَبُولُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي إبْقَائِهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عَرْضًا؛ لِأَنَّهُ يُعْطِيه غَيْرَ مَا وَجَبَ لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ.
[فَصْلٌ أُحَال رَجُلًا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ فَأُحَالَهُ زَيْدٌ بِهَا عَلَى عَمْرٍو]
(٣٥٦٢) فَصْلٌ: إذَا أَحَالَ رَجُلًا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفٍ، فَأَحَالَهُ زَيْدٌ بِهَا عَلَى عَمْرٍ فَالْحَوَالَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَصَحَّ أَنْ يُحِيلَ بِهِ، كَالْأَوَّلِ. وَهَكَذَا لَوْ أَحَالَ الرَّجُلُ عَمْرًا عَلَى زَيْدٍ بِمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَتَكَرُّرُ الْمُحْتَالِ وَالْمُحِيلِ لَا يَضُرُّ.
[فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَأُحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ]
(٣٥٦٣) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ثَمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ حُرِّيَّته بِبَيِّنَةٍ أَوْ اتِّفَاقِهِمْ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى حُرِّيَّته، وَكَذَّبَهُمَا الْمُحْتَالُ، وَلَا بَيِّنَةَ بِذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ حَقَّهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، ثُمَّ اعْتَرَفَ هُوَ وَبَائِعُهُ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً، لَمْ تُسْمَعْ؛ لِأَنَّهُمَا كَذَّبَاهَا بِدُخُولِهِمَا فِي التَّبَايُعِ. وَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِحُرِّيَّتِهِ، قُبِلَتْ، وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ.
وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمُحْتَالُ، وَادَّعَى أَنَّ الْحَوَالَةَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْحَوَالَةِ، وَهُمَا يَدَّعِيَانِ بُطْلَانَهَا، فَكَانَتْ جَنْبَتُهُ أَقْوَى. فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بِالثَّمَنِ، قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَذِّبَاهَا. وَإِنْ اتَّفَقَ الْمُحِيلُ وَالْمُحْتَالُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ، وَكَذَّبَهُمَا الْمُحَالُ عَلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ فِي حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ؛ لِاتِّفَاقِ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَالرَّاجِعِ بِهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ يَعْتَرِفُ لِلْمُحْتَالِ بِدَيْنٍ لَا يُصَدِّقُهُ فِيهِ، فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا.
وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُحْتَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عَتَقَ؛ لِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ مَعَهُ فِي الْحَوَالَةِ اعْتِرَافٌ بِبَرَاءَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى آخَرَ]
(٣٥٦٤) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى آخَرَ، فَقَبَضَهُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِعَيْبٍ، أَوْ مُقَايَلَةٍ، أَوْ اخْتِلَافٍ فِي ثَمَنٍ، فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ بِإِذْنِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، وَيَعُودُ الْمُشْتَرِي إلَى ذِمَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute