للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ أَلِفَهُ الْأَعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِيمَا تَيَقَّنَهُ، كَالْبَصِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِ حُصُولِ الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: لِلسَّمْعِ قِيَافَةٌ كَقِيَافَةِ الْبَصَرِ. وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَسْمَعَهَا مِنْ عَدْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُمَا حَتَّى يَعْرِفَ عَدَالَتَهُمَا، فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَعْرِفَ الشَّاهِدَيْنِ، صَحَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُقِرَّ.

وَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِ رِوَايَته، وَجَوَازِ اسْتِمَاعِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ إذَا عَرَفَ صَوْتَهَا، وَصِحَّةِ قَبُولِهِ النِّكَاحَ، وَجَوَازُ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ، كَجَوَازِ اشْتِبَاهِ الصُّوَرِ، وَفَارَقَ الْأَفْعَالَ؛ فَإِنَّ مَدْرَكِهَا الرُّؤْيَةُ، وَهِيَ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ مِنْ الْأَعْمَى، وَالْأَقْوَالُ مَدْرَكُهَا السَّمْعُ، وَهُوَ يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِيهِ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ، يُفَارِقُ الْخَطَّ، فَإِنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ مَنْ كَتَبَ الْخَطَّ، أَوْ رَآهُ وَهُوَ يَكْتُبُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا كَتَبَ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ، وَعَلِمَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا. فَإِنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ صَوْتَ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْبَصِيرِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ.

[فَصْل تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلٍ ثُمَّ عَمِيَ]

(٨٣٨٠) فَصْلٌ: فَإِنْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلٍ، ثُمَّ عَمِيَ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، إذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ حَاسَّةٍ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَالصَّمَمِ، وَيُفَارِقُ الْحُكْمَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ لَهُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ مَا لَا يُعْتَبَرُ لِلشَّهَادَةِ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ لَهُ السَّمْعُ وَالِاجْتِهَادُ وَغَيْرُهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، لَكِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ؛ لِكَثْرَةِ إلْفِهِ لَهُ، صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ.

وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَعَ صِحَّةِ النُّطْقِ، فَمَنَعَ الْحُكْمَ بِهَا، كَالْفِسْقِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، لَا يُورِثُ تُهْمَةً فِي حَالِ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَهَا كَالْمَوْتِ، وَفَارَقَ الْفِسْقَ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ تُهْمَةً حَالَ الشَّهَادَةِ.

[فَصْل شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ]

(٨٣٨١) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِحَالٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ قِيلَ لَهُ: وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>