مُحَرَّمٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَضُّ مُبَاحًا، مِثْلُ أَنْ يُمْسِكَهُ فِي مَوْضِعٍ يَتَضَرَّرُ بِإِمْسَاكِهِ، أَوْ يَعَضُّ يَدَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ ضَرَرِهِ إلَّا بِعَضِّهِ، فَيَعَضُّهُ، فَمَا سَقَطَ مِنْ أَسْنَانِهِ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ عَاضٌّ وَالْعَضُّ مُبَاحٌ.
وَلِذَلِكَ لَوْ عَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْمَعْضُوضَ تَخْلِيصُ يَدِهِ إلَّا بِعَضِّهِ، فَلَهُ عَضُّهُ، وَيَضْمَنُ الظَّالِمُ مِنْهُمَا مَا تَلِفَ مِنْ الْمَظْلُومِ، وَمَا تَلِفَ مِنْ الظَّالِمِ هَدْرٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَضَّهُ فِي غَيْرِ يَدِهِ، أَوْ عَمِلَ بِهِ عَمَلًا غَيْرَ الْعَضِّ أَفْضَى إلَى تَلَفِ شَيْءٍ مِنْ الْفَاعِلِ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ غُلَامًا أَخَذَ قُمْعًا مِنْ أَقْمَاعِ الزَّيَّاتِينَ، فَأَدْخَلَهُ بَيْنَ فَخِذَيْ رَجُلٍ، وَنَفَخَ فِيهِ، فَذُعِرَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَبَطَ بِرِجْلِهِ، فَوَقَعَ عَلَى الْغُلَامِ، فَكَسَرَ بَعْضَ أَسْنَانِهِ، فَاخْتَصَمُوا إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا أَعْقِلُ الْكَلْبَ الْهَرَّارَ.
قَالَ الْقَاضِي: يُخَلِّصُ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنْ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ فَكُّ لَحْيَيْهِ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لَكَمَهُ فِي فَكِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ جَذَبَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ، فَلَهُ أَنْ يَعْصِرَ خُصْيَتَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَبْعَجَ بَطْنَهُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَهُ أَنْ يَجْذِبَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ يَدِهِ فِي فَمِ الْعَاضِّ حَتَّى يَتَحَيَّلَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِأَنَّ جَذْبَ يَدِهِ مُجَرَّدُ تَخْلِيصٍ لِيَدِهِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ سُقُوطِ الْأَسْنَانِ حَصَلَ ضَرُورَةَ التَّخْلِيصِ الْجَائِزِ، وَلَكْمُ فَكِّهِ جِنَايَةٌ غَيْرُ التَّخْلِيصِ، وَرُبَّمَا تَضَمَّنَتْ التَّخْلِيصَ، وَرُبَّمَا أَتْلَفَتْ الْأَسْنَانَ الَّتِي لَمْ يَحْصُلْ الْعَضُّ بِهَا، وَكَانَتْ الْبَدَاءَةُ بِجَذْبِ يَدِهِ أَوْلَى.
وَيَنْبَغِي أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ جَذْبُ يَدِهِ، فَعَدَلَ إلَى لَكْمِ فَكِّهِ، فَأَتْلَفَ سِنًّا، ضَمِنَهُ، لِإِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
[فَصْلٌ وَمَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ مِنْ ثَقْبٍ أَوْ شَقِّ بَابٍ أَوْ نَحْوِهِ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ]
(٧٣٨٩) وَمَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ مِنْ ثَقْبٍ، أَوْ شَقِّ بَابٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِحَصَاةٍ، أَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ، فَقَلَعَ عَيْنَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَنَظَرَ فِيهِ، أَوْ نَالَ مِنْ امْرَأَتِهِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، لَمْ يَجُزْ قَلْعُ عَيْنِهِ، فَمُجَرَّدُ النَّظَرِ أَوْلَى.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْك بِغَيْرِ إذْنٍ، فَحَذَفْته بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْت عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْك جُنَاحٌ.» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، «أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي حَجَرٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُكُّ رَأْسَهُ بِمِدْرَى فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَنْظُرُنِي لَطَمْت، أَوْ لَطَعَنْت بِهَا فِي عَيْنِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَيُفَارِقُ مَا قَاسُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute