وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ، سَقَطَ، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ، وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَا حَكَمَ فِيهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَانَ غَنِيمَةً، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْقَهْرِ وَالْحَصْرِ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّاهُ الْكُفَّارُ وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ]
(٧٦١٩) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَإِذَا خُلِّيَ الْأَسِيرُ مِنَّا، وَحَلَفَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ يُعَيِّنُهُ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّيْهِ الْكُفَّارُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ، نَظَرْت، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ بِالْعَذَابِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِرُجُوعٍ وَلَا فِدَاءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْضًا: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: ٩١]
«وَلَمَّا صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا وَفَّى لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَلِأَنَّ فِي الْوَفَاءِ مَصْلَحَةً لِلْأُسَارَى، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَمَّنُونَ بَعْدَهُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّهُ عَاهَدَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْمَشْرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، أَوْ شَرَطَ لَهُمْ مَالًا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ.
فَأَمَّا إنْ عَجَزَ عَنْ الْفِدَاءِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمُفَادَى امْرَأَةً، لَمْ تُرْجَعْ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: ١٠] وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ رَدَّ النِّسَاءِ إلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ صُلْحِهِ عَلَى رَدِّهِنَّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِيهَا: فَجَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرُدُّوهُنَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ
وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، لَا يُرْجَعُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، كَمَا لَوْ كَانَ امْرَأَةً، وَكَمَا لَوْ شَرَطَ قَتْلَ مُسْلِمٍ، أَوْ شُرْبَ الْخَمْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute