تَرَكَ سِتِّينَ دِينَارًا، مَا تَرَكَ خَيْرًا. وَقَالَ طَاوُسٌ: الْخَيْرُ ثَمَانُونَ دِينَارًا. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَلِيلُ أَنْ يُصِيبَ أَقَلُّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي، أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَتْرُوكُ لَا يَفْضُلُ عَنْ غِنَى الْوَرَثَةِ، فَلَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً» . وَلِأَنَّ إعْطَاءَ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ خَيْرٌ مِنْ إعْطَاءِ الْأَجْنَبِيِّ، فَمَتَى لَمْ يَبْلُغْ الْمِيرَاثُ غِنَاهُمْ، كَانَ تَرْكُهُ لَهُمْ كَعَطِيَّتِهِمْ إيَّاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْوَرَثَةِ فِي كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، وَغِنَاهُمْ وَحَاجَتِهِمْ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا مِنْ مَالٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ مَالٍ يَتْرُكُهُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ، يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْ النَّاسِ.
[فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ]
(٤٥٩٣) فَصْلٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَ غَنِيًّا اُسْتُحِبَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسَعْدٍ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . مَعَ إخْبَارِهِ إيَّاهُ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَقِلَّةِ عِيَالِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: " إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَتِي ". وَرَوَى سَعِيدٌ ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «مَرِضْت مَرَضًا، فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: أَوْصَيْت؟ . فَقُلْت: نَعَمْ. أَوْصَيْت بِمَالِي كُلِّهِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْصِ بِالْعُشْرِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مَالِيَ كَثِيرٌ. وَوَرَثَتِي أَغْنِيَاءُ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَاقِصُنِي وَأُنَاقِصُهُ، حَتَّى قَالَ: أَوْصِ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا يَبْلُغُ فِي وَصِيَّتِهِ الثُّلُثَ حَتَّى يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَفْضَلُ لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ. وَنَحْوَ هَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ السَّلَفِ، وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَاءَهُ شَيْخٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَمَالِي كَثِيرٌ، وَيَرِثُنِي أَعْرَابٌ مَوَالِي كَلَالَةً، مَنْزُوحٌ نَسَبُهُمْ، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحُطُّ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: السُّنَّةُ الرُّبُعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يَعْرِفُ فِي مَالِهِ حُرْمَةَ شُبُهَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُ اسْتِيعَابُ الثُّلُثِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute