[فَصْل جِنْسُ الطَّعَامِ وَكَيْفِيَّته وَمُسْتَحِقُّهُ فِي كَفَّارَة الظِّهَار]
(٦٢١٢) فَصْلٌ: وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْإِطْعَامِ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَة: كَيْفِيَّتُهُ، وَجِنْسُ الطَّعَامِ، وَمُسْتَحِقُّهُ. فَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكُ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ لَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ أَوْ عَشَّاهُمْ لَمْ يُجْزِئُهُ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الْوَاجِبِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلَوْ غَدَّى كُلَّ وَاحِدٍ بِمُدٍّ، لَمْ يُجْزِئْهُ، إلَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إذَا أَطْعَمَهُمْ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ لَهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَطْعَمَ أَنَسٌ فِي فِدْيَةِ الصِّيَامِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَطْعَمَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَصَنَعَ الْجِفَانَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: ٤] . وَهَذَا قَدْ أَطْعَمَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئُهُ، وَلِأَنَّهُ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ مَلَّكَهُمْ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الصَّحَابَةِ إعْطَاؤُهُمْ؛ فَفِي قَوْلِ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، مُدٌّ لِكُلِّ فَقِيرٍ.
«وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَعْبٍ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ، بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» . وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ لِلْفُقَرَاءِ شَرْعًا، فَوَجَبَ تَمْلِيكُهُمْ إيَّاهُ كَالزَّكَاةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُجْزِئُ. اُشْتُرِطَ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ بِسِتِّينَ مُدًّا فَصَاعِدًا؛ لِيَكُونَ قَدْ أَطْعَمَهُمْ قَدْرَ الْوَاجِبِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ، فَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سِتِّينَ مُدًّا، وَقَالَ: هَذَا بَيْنَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ. فَقَبِلُوهُ، أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُمْ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَالِانْتِفَاعَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ: يُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خُذُوهَا عَنْ كَفَّارَتِي. يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرُ حَقِّهِ أَجْزَأَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ شَغْلُ ذِمَّتِهِ، مَا لَمْ يَعْلَمْ وُصُولَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ مُشَاعًا، فَقَبِلُوهُ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَدُيُونِ غُرَمَائِهِ.
[فَصْلٌ التَّتَابُعُ فِي الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَة الظِّهَار]
(٦٢١٣) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي الْإِطْعَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَقِيلَ لَهُ: تَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَيُطْعِمُ الْيَوْمَ وَاحِدًا، وَآخَرَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَآخَرَ بَعْدُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ عَشْرَةً؟ فَلَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ فِيهِ. وَلَوْ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ الْإِطْعَامِ، لَمْ تَلْزَمْهُ إعَادَةُ مَا مَضَى مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَوَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ، كَالصِّيَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ مَا لَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ فِيهِ، فَلَمْ يُوجِبْ الِاسْتِئْنَافَ، كَوَطْءِ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا، أَوْ كَالْوَطْءِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الصِّيَامَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute