أَقَلِّ مِنْ الْكِفَايَةِ مِنْ الرِّزْقِ تَرْكٌ لِلْمَعْرُوفِ، وَإِيجَابُ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ أَوْ مِنْ رِطْلَيْ خُبْزٍ، إنْفَاقٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَاعْتِبَارُ النَّفَقَةِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْقَدْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بِهَا فِي الْجِنْسِ دُونَ الْقَدْرِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهَا الْأُدْمُ.
[فَصْلٌ لَا يَجِبُ فِي النَّفَقَةِ الْحَبُّ]
(٦٤٥٧) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ فِيهَا الْحَبُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ فِيهَا الْحَبُّ، اعْتِبَارًا بِالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَيْهَا دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا أَوْ خُبْزًا، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمِسْكِينَ فِي الْكَفَّارَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ تَرَاضَيَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ حِنْطَةٍ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: ٨٩] . قَالَ: الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالتَّمْرُ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَهُنَّ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ. فَفَسَّرَ إطْعَامَ الْأَهْلِ بِالْخُبْزِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُدْمِ.
وَلِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْإِنْفَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَدَّ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ إنَّمَا يَتَعَارَفُونَ فِيمَا بَيْنهمْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَهْلَيْهِمْ الْخُبْزَ وَالْأُدْمَ، دُونَ الْحَبِّ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتُهُ إنَّمَا كَانُوا يُنْفِقُونَ ذَلِكَ، دُونَ مَا ذَكَرُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَلِأَنَّهَا نَفَقَةٌ قَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْكِفَايَةِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ الْخُبْزَ، كَنَفَقَةِ الْعَبِيدِ، وَلِأَنَّ الْحَبَّ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ، فَمَتَى احْتَاجَتْ إلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا لَمْ تَحْصُلْ الْكِفَايَةُ بِنَفَقَتِهِ، وَفَارَقَ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقَدَّرُ بِالْكِفَايَةِ، وَلَا يَجِبُ فِيهَا الْأُدْمُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَبَتْ مَكَانَ الْخُبْزِ دَرَاهِمَ، أَوْ حَبًّا، أَوْ دَقِيقًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ، وَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهَا بَدَلَ الْوَاجِبِ لَهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى قَبُولِهِ، كَالْبَيْعِ.
وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَجَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، كَالطَّعَامِ فِي الْقَرْضِ، وَيُفَارِقُ الطَّعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هُوَ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَيَرْضَى بِالْعِوَضِ عَنْهُ. وَإِنْ أَعْطَاهَا مَكَانَ الْخُبْزِ حَبًّا، أَوْ دَقِيقًا، جَازَ إذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَيِّنْ الْوَاجِبَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْكِفَايَةِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْخُبْزِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، لِتَرَجُّحِهِ بِكَوْنِهِ الْقُوتَ الْمُعْتَادَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute