أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَإِنَّمَا صَرَفْنَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ مَعَ بَقَائِهِ صَدَقَةً.
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، وَيَبْطُلَ الْوَقْفُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَة يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ عَصَبَةِ الْوَاقِفِ، دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَدُونَ الْبَعِيدِ مِنْ الْعَصَبَاتِ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِوَلَاءِ الْمَوَالِي، لِأَنَّهُمْ خُصُّوا بِالْعَقْلِ عَنْهُ، وَبِمِيرَاثِ مَوَالِيه، فَخُصُّوا بِهَذَا أَيْضًا. وَهَذَا لَا يَقْوَى عِنْدِي، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِهَذَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا، وَلَا إجْمَاعًا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مِيرَاثِ وَلَاءِ الْمَوَالِي؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ لَا تَتَحَقَّقُ هَاهُنَا
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِيهِ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَقَارِبِ الْوَاقِفِ مَسَاكِينُ، كَانُوا أُولَى بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ وَصَلَاتِهِ مَعَ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّنَا إذَا صَرَفْنَاهُ إلَى أَقَارِبِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، فَهِيَ أَيْضًا جِهَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اتِّصَالُهُ إلَّا بِصَرْفِهِ إلَى الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ.
(٤٣٩٩) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ أَقَارِبُ، أَوْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ فَانْقَرَضُوا، صُرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ
لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ الثَّوَابُ الْجَارِي عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْأَقَارِبَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِكَوْنِهِمْ أُولَى، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا، فَالْمَسَاكِينُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُصْرَفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ مِلْكًا لَهُمْ. فَإِنَّهُ يُصْرَفُ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بِانْقِطَاعِهِ، وَصَارَ مِيرَاثًا لَا وَارِثَ لَهُ، فَكَانَ بَيْتُ الْمَالِ بِهِ أَوْلَى.
[فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت هَذَا وَسَكَتَ أَوْ قَالَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ]
(٤٤٠٠) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَقَفْت هَذَا. وَسَكَتَ، أَوْ قَالَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ. فَلَا نَصَّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَصِحُّ الْوَقْفُ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ: يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِكَفَّارَةِ يَمِينٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقُهُ، كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ: وَصَّيْت بِثُلُثِ مَالِي. صَحَّ، وَإِذَا صَحَّ صُرِفَ إلَى مَصَارِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute