فَإِنَّ بَيْعَهَا أَسْهَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِهَا. وَالصَّحِيحُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي بَابِهِ. .
[فَصْلٌ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّات]
فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُهُ؛ لِقَوْلِهِ: " وَكُلُّ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ ". وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ آدَمِيَّةٍ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْعَرَقِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَلَبَنِ الشَّاهِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي إجَارَةِ الظِّئْرِ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، وَيُفَارِقُ الْعَرَقَ، فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُبَاعُ عَرَقُ الشَّاةِ، وَيُبَاعُ لَبَنُهَا. وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ، وَالْأَمَةِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ بَيْعُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَحَرُمَ بَيْعُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ.
[فَصْلٌ فِي بَيْعِ رُبَاع مَكَّة وَإِجَارَة دُورِهَا]
(٣١٧٥) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَيْعِ رُبَاعِ مَكَّةَ وَإِجَارَةِ دُورِهَا، فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَكَرِهَ إِسْحَاقُ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي مَكَّةَ: لَا تُبَاعُ رُبَاعُهَا، وَلَا تُكْرَى بُيُوتُهَا» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «: مَكَّةُ حَرَامٌ بَيْعُ رُبَاعِهَا، حَرَامٌ إجَارَتُهَا.» وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ مُسَدَّدٌ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَلِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلَمْ تُقَسَّمْ، فَكَانَتْ مَوْقُوفَةً، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَسَائِرِ الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَلَمْ يُقَسِّمُوهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لَأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ قَالَتْ: «أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي، فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَخِي قَتْلَهُمَا، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي، فَزَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلُهُمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت، أَوْ أَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت يَا أُمَّ هَانِئٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ «أَمَرَ النَّبِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute