ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُبْهَمَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ لَفْظِهِ بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَى شَهْرٍ. كَانَ آخِرَهُ. وَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْأَشْهُرِ الْهِلَالِيَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: ٣٦] . وَأَرَادَ الْهِلَالِيَّةَ. وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ كَمَّلْنَا شَهْرَيْنِ بِالْهِلَالِ وَشَهْرًا بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: تَكُونُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَدَدِيَّةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ قَالَ: مَحَلُّهُ شَهْرَ كَذَا أَوْ يَوْمَ كَذَا. صَحَّ، وَتَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ ظَرْفًا، فَيَحْتَمِلُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ كَذَا. تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا.
فَإِنْ قِيلَ: الطَّلَاقُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِخْطَارِ وَالْإِغْرَارِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَجْهُولٍ، كَنُزُولِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ زَيْدٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ مَحَلَّهُ فِي شَهْرٍ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ، فَلَا يَكُونُ مَجْهُولًا، وَكَذَا السَّلَمُ.
[فَصْلٌ شَرْطِ الْأَجَلِ فِي السَّلَم]
(٣٢٢٤) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مُدَّةً لَهَا وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ، كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ قَدَّرَهُ بِنِصْفِ يَوْمٍ، جَازَ. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَجُوزُ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهَا آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ رُخَصِ السَّفَرِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّمَا اُعْتُبِرَ التَّأْجِيلُ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعْدُومٌ فِي الْأَصْلِ، لِكَوْنِ السَّلَمِ إنَّمَا ثَبَتَ رُخْصَةً فِي حَقِّ الْمَفَالِيسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَحْصُلَ وَيُسَلَّمَ؛ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ فِيهَا وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ لِيَتَحَقَّقَ الْمَرْفِقُ الَّذِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهِ السَّلَمُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لَا وَقْعَ لَهَا فِي الثَّمَنِ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِمُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَجُوزُ سَاعَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالْأَجَلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْوَامًا، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْخِيَارَ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثٍ، وَكَوْنُهَا آخِرَ حَدِّ الْقِلَّةِ، لَا يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ بِهَا.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ السَّلَمَ إنَّمَا يَكُونُ لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ الَّذِينَ لَهُمْ ثِمَارٌ أَوْ زُرُوعٌ أَوْ تِجَارَاتٌ يَنْتَظِرُونَ حُصُولَهَا، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ.
[الْفَصْل الثَّالِث كَوْنِ الْأَجَلِ فِي السَّلَم مَعْلُومًا بِالْأَهِلَّةِ]
(٣٢٢٥) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي كَوْنِ الْأَجَلِ مَعْلُومًا بِالْأَهِلَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى وَقْتٍ يُعْلَمُ بِالْهِلَالِ، نَحْوَ أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَوْ أَوْسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ، أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: ١٨٩] . وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ التَّأْجِيلِ بِذَلِكَ.
وَلَوْ أَسْلَمَ إلَى عِيدِ الْفِطْرِ، أَوْ النَّحْرِ، أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ عَاشُورَاءَ، أَوْ نَحْوِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْأَهِلَّةِ. وَإِنْ جَعَلَ الْأَجَلَ مُقَدَّرًا بِغَيْرِ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ، فَذَلِكَ قِسْمَانِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute