للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: لَا، حَتَّى يَبْلُغَ مِنْهَا مَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ. قُلْت: فَإِنْ مَشَطَهَا، أَوْ خَضَّبَهَا، أَوْ حَفَّهَا، هَلْ يَسْتَوْجِبُهَا بِذَلِكَ؟ قَالَ: قَدْ بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَا يَخْتَصُّ الْمِلْكَ، وَيُرَادُ لِتَجْرِبَةِ الْمَبِيعِ، فَأَشْبَهَ رُكُوبَ الدَّابَّةِ لِيَعْلَم سَيْرَهَا. وَنَقَلَ حَرْبٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمَبِيعِ، أَشْبَهَ لَمْسَهَا لِشَهْوَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا قُصِدَ بِهِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ، تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ، لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِيَعْلَمَ سَيْرَهَا، وَمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْخِيَارَ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يَخْتَصُّ الْمِلْكَ، فَأَبْطَلَ خِيَارَهُ، كَقُبْلَتِهِ لَهَا. وَلَنَا: أَنَّهَا قُبْلَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، كَمَا لَوْ قَبَّلَتْ الْبَائِعَ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ، لَا لَهَا، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ بِفِعْلِهَا لَأَلْزَمْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا قَبَّلَهَا؛ فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَا. وَمَتَى بَطَلَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ، فَخِيَارُ الْبَائِعِ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَبْطُلُ بِرِضَا غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُمَا مَعًا؛ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِإِبْطَالِهِ.

وَإِنْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الْمَبِيعِ بِمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ، كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُشْتَرِي. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ اخْتِيَارٌ لَهُ، كَالْمُشْتَرِي. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ اسْتِرْجَاعًا لَهُ، كَمَنْ وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ، فَتَصَرَّفَ فِيهِ.

[فَصْلٌ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ]

(٢٧٦٠) فَصْلٌ: وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لَهُمَا، أَوْ لَأَحَدِهِمَا، أَيَّهُمَا كَانَ، وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ.

وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَلِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ عَقْدٌ قَاصِرٌ، فَلَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ، كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِي: أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَإِنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ الْبَائِعِ.

وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَوْلُهُ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَجَعَلَهُ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَهُوَ عَامٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ. وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَنَقَلَ الْمِلْكَ عَقِيبَهُ، كَاَلَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ. وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَلَّكْتُكَ. فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، كَسَائِرِ الْبَيْعِ. يُحَقِّقُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>