للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إنَّ صَدَقَ ". فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يَقُولُوهَا فِيهِ. وَحَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ، قَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ كَانَ يَثْبُتُ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي إبَاحَةِ الذَّبْحِ فِي الْفَخِذِ. ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ كَانَ يَحْلِفُ بِهَا كَمَا حَلَفَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نُهِيَ عَنْ الْحَلِفِ بِهَا، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ النَّهْيِ إبَاحَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ، وَهُوَ يَرْوِي الْحَدِيثَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَمَا حَلَفْت بِهَا ذَاكِرًا، وَلَا آثَرَا.

ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ حَلَفَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سَيِّئَةٌ، وَالْحَسَنَةُ تَمْحُو السَّيِّئَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: ١١٤] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا عَمِلْت سَيِّئَةً، فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا» . وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ عَظَّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعْظِيمًا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا سُمِّيَ شِرْكًا؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْظِيمِهِ بِالْقَسَمِ بِهِ، فَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. تَوْحِيدًا لِلَّهِ - تَعَالَى، وَبَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَلْيَقُلْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.

[فَصْلٌ الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى]

(٧٩٤٣) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} [القلم: ١٠] . وَهَذَا ذَمٌّ لَهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ فِعْلِهِ. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ كَرَاهَتَهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَيْمَانُ كُلُّهَا مَكْرُوهَةٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٤] .

وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْلِفُ كَثِيرًا، وَقَدْ كَانَ يَحْلِفُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ أَيْمَانًا كَثِيرَةً، وَرُبَّمَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ «قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: وَاَللَّهِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. وَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مَعَهَا أَوْلَادُهَا، فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>