للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفِي الْيَمِينِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَصْدُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ بِهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ قَاصِدًا لِفِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ الْحِنْثُ، كَالذَّاكِرِ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ، مَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهَا تَجِبُ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَلَا إثْمَ عَلَى النَّاسِي. وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، فَهُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ، فَيَقَعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَوْ قَدِمَ الْحَاجُّ.

[فَصْلٌ فَعَلَهُ غَيْرَ عَالَمٍ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ الْحَلِف]

(٧٩٤٨) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، كَرَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ يَحْسَبُهُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ حَلَفَ إنَّهُ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، فَأَعْطَاهُ قَدْرَ حَقِّهِ، فَفَارَقَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ بَرَّ، فَوَجَدَ مَا أَخَذَهُ رَدِيئًا، أَوْ حَلَفَ: لَا بِعْت لِزَيْدٍ ثَوْبًا. فَوَكَّلَ زَيْدٌ مَنْ يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ، فَدَفَعَهُ إلَى الْحَالِفِ، فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَهُوَ كَالنَّاسِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ، أَشْبَهَ النَّاسِيَ.

[فَصْلٌ الْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ]

(٧٩٤٩) فَصْلٌ: وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُلْجَأَ إلَيْهِ، مِثْلَ مَنْ يَحْلِفُ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَحُمِلَ فَأُدْخِلَهَا. أَوْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأُخْرِجَ مَحْمُولًا، أَوْ مَدْفُوعًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ. فَهَذَا لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ دَخَلَ مَرْبُوطًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ.

الثَّانِي أَنْ يُكْرَهَ بِالضَّرْبِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَتَانِ، كَالنَّاسِي. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَوَجَبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ، كَكَفَّارَةِ الصَّيْدِ.

وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إكْرَاهٍ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَمَا لَوْ حُمِلَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ الْكَفَّارَةَ فِي الصَّيْدِ، بَلْ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةٌ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ]

(٧٩٥٠) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ) . هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُسَمَّى يَمِينَ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ لَهَا، الْيَمِينَ الْغَمُوسَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالْبَتِّيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَتْ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُخَالَفَةُ مَعَ الْقَصْدِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَالْمُسْتَقْبِلَةِ.

وَلَنَا، أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، فَلَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَاللَّغْوِ، أَوْ يَمِينٌ عَلَى مَاضٍ، فَأَشْبَهْت اللَّغْوَ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا غَيْرَ مُنْعَقِدَةٍ، أَنَّهَا لَا تُوجِبُ بِرًّا، وَلَا يُمْكِنُ فِيهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ الْحِنْثُ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ، كَالنِّكَاحِ الَّذِي قَارَنَهُ الرَّضَاعُ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ إثْمَهَا، فَلَا تُشْرَعُ فِيهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرُوِيَ فِيهِ: «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ لَهُنَّ؛ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ، وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» . وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، يُمْكِنُ حَلُّهَا وَالْبِرُّ فِيهَا، وَهَذِهِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، فَلَا حَلَّ لَهَا.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْحَلِفِ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

[مَسْأَلَةٌ الْكَفَّارَة إنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ يُرِيدُ عَقْدِ الْيَمِينِ]

(٧٩٥١) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ يُرِيدُ عَقْدَ الْيَمِينِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى لِسَانِهِ فِي عَرَضِ حَدِيثِهِ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: اللَّغْوُ عِنْدِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْيَمِينِ، يَرَى أَنَّهَا كَذَلِكَ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ فَلَا يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى شَيْءٍ.

وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّ اللَّغْوَ الْيَمِينُ الَّتِي لَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا قَلْبَهُ؛ عُمَرُ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْقَاسِمُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>