للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا أَنَا وَلَا أَنْتَ، وَلَا أَبَرُّ لَك قَسَمًا، وَأَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي مِنْك. فَإِذَا قَبِلَ الْفِدْيَةَ، وَأَخَذَ الْمَالَ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ رَوَى، قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدْ كَيْفَ الْخُلْعُ؟ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمَالَ، فَهِيَ فُرْقَةٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَخْذُ الْمَالِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ.

وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ قَبِلَ مَالًا عَلَى فِرَاقٍ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهَا. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَجَمِيلَةَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: خُذْ مَا أَعْطَيْتَهَا، وَلَا تَزْدَدْ» وَلَمْ يَسْتَدْعِ مِنْهُ لَفْظًا. وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تُغْنِي عَنْ اللَّفْظِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى قَصَّارٍ أَوْ خَيَّاطٍ مَعْرُوفَيْنِ بِذَلِكَ، فَعَمِلَاهُ، اسْتَحَقَّا الْأُجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا عِوَضًا.

وَلَنَا أَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْخُلْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ، كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِعِوَضٍ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْبُضْعِ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ قَبْضٌ لِعِوَضٍ، فَلَمْ يَقُمْ بِمُجَرَّدِهِ مَقَامَ الْإِيجَابِ، كَقَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ إنْ كَانَ طَلَاقًا، فَلَا يَقَعُ بِدُونِ صَرِيحَةٍ أَوْ كِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فَهُوَ أَحَدُ طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ، كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَمِيلَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: (اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ اللَّفْظِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا. وَمَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْفُرْقَةَ، فَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى الْفُرْقَةَ وَالطَّلَاقَ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: فَفَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَالَ (خُذْ مَا أَعْطَيْتَهَا) . فَجَعَلَ التَّفْرِيقَ قَبْلَ الْعِوَضِ، وَنَسَبَ التَّفْرِيقَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَاشِرُ التَّفْرِيقَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعِوَضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهُ.

وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا مِنْ جَانِبِهَا لَفْظًا وَلَا دَلَالَةَ حَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ اتِّفَاقًا.

[مَسْأَلَةٌ لَا يَقَعُ بِالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْخُلْع طَلَاقٌ]

(٥٧٥٨) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَقَعُ بِالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْخُلْعِ طَلَاقٌ، وَلَوْ وَاجَهَهَا بِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ بِحَالٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ الصَّرِيحُ الْمُعَيَّنُ، دُونَ الْكِنَايَةِ وَالطَّلَاقِ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ. وَرَوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>