الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي الضَّمَانِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتْلَفُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ وَتَفْرِيطِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْقَبْضُ فِي صَحِيحِهِ مَضْمُونًا، كَانَ مَضْمُونًا فِي فَاسِدِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي صَحِيحِهِ، لَمْ يُضْمَنْ فِي فَاسِدِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ فِي صَحِيحِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ فِي فَاسِدِهِ، كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّهَا إذَا فَسَدَتْ صَارَتْ إجَارَةً، وَالْأَجِيرُ لَا يَضْمَنُ سُكْنَى مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدِّيه وَلَا فِعْلِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا الشَّرِكَةُ إذَا فَسَدَتْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هَذَا.
[مَسْأَلَةٌ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ضَارِبِ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك]
(٣٧١٣) . مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ: ضَارِبْ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك)
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا ذَلِكَ عَنْهُ: عَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ، فَقَدْ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَدَفَعَ الدَّيْنَ إلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَرْضًا، وَقَالَ: بِعْهُ، وَضَارِبِ بِثَمَنِهِ. وَجَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَكَانَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ الشِّرَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الْقِرَاضِ بِشَرْطٍ. وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدَيْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ لِغَرِيمِهِ بِقَبْضِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ هَاهُنَا.
وَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْزِلْ الْمَالَ الَّذِي لِي عَلَيْك، وَقَدْ قَارَضْتُكَ عَلَيْهِ. فَفَعَلَ، وَاشْتَرَى بِعَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ، وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَحَصَلَ الشِّرَاءُ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْقِرَاضَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَعَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْمَالَ.
[فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلِ اقْبِضْ الْمَالَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً]
(٣٧١٤) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْبِضْ الْمَالَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً. فَقَبَضَهُ، وَعَمِلَ بِهِ، جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَيَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ، مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَجَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْبِضْ الْمَالَ مِنْ غُلَامِي، وَضَارِبِ بِهِ.
قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: أَقْرِضْنِي أَلْفًا شَهْرًا، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الشَّهْرِ مُضَارَبَةٌ؟ قَالَ: لَا يَصْلُحُ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَارِبَ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: ضَارِبْ بِهِ شَهْرًا، ثُمَّ خُذْهُ قَرْضًا. جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.