فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: لَا يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِعْنِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت» .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَائِزٌ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِالْوَقْفِ وَجْهًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ، فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ، كَالرَّهْنِ. وَيُفَارِقُ الْوَقْفُ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ: هُوَ لَك. يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، وَالْهِبَةُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِهِ فَيُمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ يَمْلِكُ فَسْخَهُ، فَجَعَلَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ فَسْخًا.
وَأَمَّا تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَصِحُّ إذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ. فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ. وَلَنَا، عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ، أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا نِيَابَةٍ عُرْفِيَّةٍ، فَلَمْ يَصِحُّ، كَمَا بَعْدَ الْخِيَارِ. وَقَوْلُهُمْ: يَمْلِكُ الْفَسْخَ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّصَرُّفِ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَصَرُّفِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَتَصَرُّفِ الشَّفِيعِ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ قَبْلَ أَخْذِهِ.
[فَصْلٌ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ الْبَائِعُ بِوِكَالَةِ الْمُشْتَرِي]
(٢٧٦٤) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، أَوْ الْبَائِعِ بِوِكَالَةِ الْمُشْتَرِي، صَحَّ التَّصَرُّفُ، وَانْقَطَعَ خِيَارُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ، فَيُقْطَعُ بِهِ خِيَارُهُمَا، كَمَا لَوْ تَخَايَرَا، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْخِيَارِ حَصَلَ بِالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ، فَيَقَعُ الْبَيْعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ.
وَإِنْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، احْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ، أَوْ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، فَيَقَعُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمُشْتَرِي فِي اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، فَيَصِيرُ كَتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، كَذَا هَاهُنَا. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: إنَّ تَصَرُّفَ الْبَائِعِ لَا يَنْفُذُ، وَلَكِنْ يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ. فَإِنَّهُ مَتَى أَعَادَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ، أَوْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا سِوَاهُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ بِفَسْخِ الْبَيْعِ عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ، ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ تَصَرُّفَهُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
(٢٧٦٥) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ أَحَدُهُمَا بِالْعِتْقِ، نَفَذَ عِتْقُ مَنْ حَكَمْنَا بِالْمِلْكِ لَهُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لَأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مَالِكِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَنَفَذَ، كَمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ فِي الْمِلْكِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute