وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَتَغْتَسِلُ لِلصُّبْحِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ حَمْنَةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ، ثُمَّ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَيُجْزِئُهَا ذَلِكَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُرْوَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ إنَّمَا عَلَيْهَا الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ حَيْضِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا لِلِاسْتِحَاضَةِ وُضُوءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ الْغُسْلُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: " فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي ". وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
وَلَنَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا. وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْتَحَاضَةِ «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» .
وَلِأَنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ، فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ كَدَمِ الْحَيْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ مُسْتَحَبُّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَفْضَلُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا قِيلَ، ثُمَّ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ وَالْمَشَقَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَالِاغْتِسَالُ لِلصُّبْحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: «وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ» . ثُمَّ يَلِيهِ الْغُسْلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً بَعْدَ الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَهُوَ أَقَلُّ الْأُمُورِ وَيُجْزِئُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْل حُكْمُ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ]
(٥١١) فَصْلٌ: وَحُكْمُ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ فِي أَنَّهَا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، صَلَّتْ بِهَا الْفَرِيضَةَ، ثُمَّ قَضَتْ الْفَوَائِتَ، وَتَطَوَّعَتْ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ لَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجْمَعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَا تَقْضِي بِهِ فَوَائِتَ، وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ. كَقَوْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَيَحْتَمِلُهُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: «لِكُلِّ صَلَاةٍ» . وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ.» وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ: «تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.» وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ يُبِيحُ النَّفَلَ، فَيُبِيحُ الْفَرْضَ، كَوُضُوءِ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَقْتِ، كَقَوْلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ» أَيْ وَقْتُهَا، وَحَدِيثُ حَمْنَةَ ظَاهِرٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مِمَّا يَخْفَى وَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute