للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ ظَاهِرُ مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَتَى مَا حَكَمَ بِحُكْمٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَجَبَ قَبُولُهُ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ.

[فَصْلٌ أَخْبَرَ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ]

(٨٢٨٩) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ، وَخَبَرَهُ نَافِذٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُبِلَ قَوْلُهُ بِحُكْمِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَزَوَالِ وِلَايَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَأَنْ يُقْبَلَ مَعَ بَقَائِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ أَوْلَى.

وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَقَالَ: لَوْ اجْتَمَعَ قَاضِيَانِ فِي غَيْرِ وِلَايَتِهِمَا، كَقَاضِي دِمَشْقَ وَقَاضِي مِصْرَ، اجْتَمَعَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِحُكْمٍ حَكَمَ بِهِ، أَوْ شَهَادَةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ، لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا قَوْلَ صَاحِبِهِ، وَيَكُونَانِ كَشَاهِدَيْنِ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ مَنْ لَيْسَ بِقَاضٍ فِي مَوْضِعِهِ.

وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا، كَأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا جَمِيعًا فِي دِمَشْقَ، فَإِنَّ قَاضِيَ دِمَشْقَ لَا يَعْمَلُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَاضِي مِصْرَ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُهُ بِهِ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ. وَهَلْ يَعْمَلُ قَاضِي مِصْرَ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَاضِي دِمَشْقَ إذَا رَجَعَ إلَى مِصْرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الْقَاضِي، هَلْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَاضِيَ دِمَشْقَ أَخْبَرَهُ بِهِ فِي عَمَلِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كَقَوْلِ الْقَاضِي هَاهُنَا.

[فَصْلٌ وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا ثُمَّ مَاتَ]

(٨٢٩٠) فَصْلٌ: إذَا وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يَنْعَزِلْ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الْإِمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّلُ مِنْ الْحُكَّامِ، وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ إلَى أَنْ يُوَلِّيَ الْإِمَامُ الثَّانِي حَاكِمًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.

وَكَذَلِكَ لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي إذَا عُزِلَ الْإِمَامُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ عَزَلَهُ الْإِمَامُ الَّذِي وَلَّاهُ أَوْ غَيْرُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَنْعَزِلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَمْلِكْ عَزْلَهُ مَعَ سَدَادِ حَالِهِ، كَمَا لَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ.

وَالثَّانِي، لَهُ عَزْلُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْزِلَنَّ أَبَا مَرْيَمَ، وَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا إذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرَّقَهُ. فَعَزَلَهُ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ.

وَوَلَّى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبَا الْأَسْوَدِ، ثُمَّ عَزَلَهُ، فَقَالَ: لِمَ عَزَلْتنِي، وَمَا خُنْت، وَلَا جَنَيْت؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُك يَعْلُو كَلَامُك عَلَى الْخَصْمَيْنِ.

وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَ أُمَرَائِهِ وَوُلَاتِهِ عَلَى الْبُلْدَانِ، فَكَذَلِكَ قُضَاتُهُ.

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، فَعَزَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَنْ وِلَايَتِهِ فِي الشَّامِ، وَوَلَّى

<<  <  ج: ص:  >  >>