وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشْرَ. فَقُلْت: يَا جِبْرِيلُ، مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ . قَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ.» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ.، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ.
[فَصْلٌ الْقَرْضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ]
(٣٢٥٤) فَصْلٌ:
وَالْقَرْضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَشَفَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: " لَأَنْ أُقْرِضَ دِينَارَيْنِ ثُمَّ يُرَدَّانِ، ثُمَّ أُقْرِضَهُمَا، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنَّ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا. وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيجًا عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَضَاءً لِحَاجَتِهِ، وَعَوْنًا لَهُ، فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ، كَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ. قَالَ أَحْمَدُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ سُئِلَ الْقَرْضَ فَلَمْ يُقْرِضْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ، فَأَشْبَهَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وَلَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ الْقَرْضُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ. يَعْنِي لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَقْرِضُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِعِوَضِهِ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ بِدَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا أُحِبُّ أَنْ يَتَحَمَّلَ بِأَمَانَتِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. يَعْنِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ، فَلْيُعْلِمْ مَنْ يَسْأَلُهُ الْقَرْضَ بِحَالِهِ، وَلَا يَغُرُّهُ مِنْ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَتَعَذَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اقْتَرَضَ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِحَالِهِ، لَمْ يُعْجِبْنِي. وَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ بِجَاهِهِ لِإِخْوَانِهِ. قَالَ الْقَاضِي: يُعْنَى إذَا كَانَ مَنْ يَقْتَرِضُ لَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَفَاءِ؛ لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الْمُقْرِضِ، وَإِضْرَارًا بِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْوَفَاءِ، لَمْ يُكْرَهْ؛ لِكَوْنِهِ إعَانَةً لَهُ، وَتَفْرِيجًا لِكُرْبَتِهِ.
[فَصْلٌ الْقَرْض لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ]
(٣٢٥٥) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ. وَحُكْمُهُ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكْمُ الْبَيْعِ، عَلَى مَا مَضَى. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ السَّلَفِ وَالْقَرْضِ؛ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِمَا، وَبِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَلَّكْتُك هَذَا، عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَى بَدَلَهُ. أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ الْقَرْضِ. فَإِنْ قَالَ: مَلَّكْتُك.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ، وَلَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهُوَ هِبَةٌ. فَإِنْ اخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هِبَةٌ.
[فَصْلٌ الْقَرْض لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ]
(٣٢٥٦) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ مَا؛ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةِ أَنَّ الْحَظَّ لِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ، وَالْمُقْتَرِضُ مَتَى شَاءَ رَدَّهُ، فَيَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ. وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ.