الشَّيْء أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي الْمُوضِحَةِ أَكْثَرُ، وَالشَّيْنَ أَعْظَمُ، وَالْمَحَلَّ وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَزِدْ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ عَلَى خَمْسٍ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا يَزِيدَ مَا دُونَهَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ، فَمَا كَانَ فِيهِ مُوَقَّتٌ، كَالْأَعْضَاءِ، وَالْعِظَامِ الْمَعْلُومَةِ، وَالْجَائِفَةِ، فَلَا يُزَادُ جُرْحُ عَظْمٍ عَلَى دِيَتِهِ، مِثَالُهُ، جَرَحَ أُنْمُلَةً، فَبَلَغَ أَرْشُهَا بِالْحُكُومَةِ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى دِيَةِ الْأُنْمُلَةِ. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فِي جَوْفِهِ دُونَ الْجَائِفَة، لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْشِ الْجَائِفَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَجَبَ مَا أَخْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُخْتَلِفٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَجَبَ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ أَكْثَرُ مِمَّا وَجَبَ فِي جَمِيعِهِ، وَوَجَبَ فِي مَنَافِعِ اللِّسَانِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبِ فِيهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا وَجَبَتْ دِيَةُ النَّفْسِ عِوَضًا عَنْ الرُّوحِ، وَلَيْسَتْ الْأَطْرَافُ بَعْضَهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يَخْتَصَّ امْتِنَاعُ الزِّيَادَةِ بِالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ؛ لِقَوْلِهِ: إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ، فَلَا يُجَاوَزُ بِهِ أَرْشُ الْمُوَقَّتِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْحُكُومَةُ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ قَدْرَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ تَنْقُصَ عَنْهَا شَيْئًا، عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِئَلَّا يَجِبَ فِي بَعْضِهَا مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهَا. وَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ مَا أَخْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الزَّائِدُ عَلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ، أَوْ تَنْبِيهَ النَّصِّ، فَفِيمَا لَمْ يَزِدْ، يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ، يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ فِدْيَةِ الْأَذَى فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ، وَلَمْ تَلْزَمْ زِيَادَتُهَا فِي حَقِّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِي الْبَعْضِ مَا يَجِبُ فِي الْكُلِّ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ؛ مِثْلُ دِيَةِ الْيَدِ كُلِّهَا، وَفِي حَشَفَةِ الذَّكَرِ مِثْلُ مَا فِي جَمِيعِهِ.
فَإِنَّ هَذَا وَجَبَ بِالتَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِالتَّقْوِيمِ. قُلْنَا: إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِنَصِّ الشَّارِعِ، لَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُ مِثْلِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْحُكُومَةُ دَلِيلُ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فِي الزَّائِدِ لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي الْمُسَاوِي، فَيَجِبُ الْعَمَلُ فِيهِ بِهَا لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ ثَمَّ، وَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقُصَ أَدْنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُسَاوَاةُ الْمَحْذُورَةُ، وَيَجِبُ الْبَاقِي، عَمَلًا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ كَيْفِيَّة التَّقْوِيم فِي الْجُرُوح]
(٧٠٠١) فَصْلٌ: وَلَا يَكُون التَّقْوِيمُ إلَّا بَعْدَ بُرْءِ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجُرْحِ الْمُقَدَّرَ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بَعْدَ بُرْئِهِ، فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهُ الْجِنَايَةُ شَيْئًا بَعْدَ الْبُرْءِ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ إصْبَعًا أَوْ يَدًا زَائِدَةً، أَوْ قَلَعَ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ، فَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ، بَلْ زَادَهُ حُسْنًا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute