الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، فَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً، كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ. وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمٍ يَحْصُلُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَخْصُوصٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ كَانَ مَالِكُ الْعَيْنِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَتَصَرُّفِهِ فِي الْعَيْنِ، فَلَمَّا أَجَرَهَا صَارَ الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا، كَمَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمُؤَجِّرُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِ الْعَيْنِ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ
قُلْنَا: هِيَ مُقَدَّرَةُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ مَوْرِدًا لِلْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ.
[فَصْلٌ الْمُؤَجَّر يَمْلِكُ الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ]
(٤١٦٦) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الْخَامِسُ، أَنَّ الْمُؤَجِّرَ يَمْلِكُ الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، إذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْمُسْتَأْجِرُ أَجَلًا، كَمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُهَا بِالْعَقْدِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا إلَّا يَوْمًا بِيَوْمٍ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْجِيلَهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إلَّا أَنْ تَكُون مُعَيَّنَةً، كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَالدَّارِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: ٦]
فَأَمَرَ بِإِيتَائِهِنَّ بَعْدَ الْإِرْضَاعِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» . فَتَوَعَّدَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ دَفْعِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا حَالَّةُ الْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفّ عَرَقُهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ لَمْ يَمْلِكْ مُعَوَّضَهُ، فَلَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ، كَالْعِوَضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ لَمْ تُمْلَكْ، وَلَوْ مُلِكَتْ فَلَمْ يَتَسَلَّمْهَا، لِأَنَّهُ يَتَسَلَّمُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا
فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ مَعَ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ فِي الْعَقْدِ. وَلَنَا أَنَّهُ عِوَضٌ أُطْلِقَ ذِكْرُهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَيُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، كَالثَّمَنِ وَالصَّدَاقِ. أَوْ نَقُولُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ يَتَعَجَّلُ بِالشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَجَّلَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْآيَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيتَاءَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِرْضَاعِ، أَوْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: ٩٨] . أَيْ إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ. وَلِأَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَاءِ فِي وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: ٢٤]
وَالصَّدَاقُ يَجِبُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute