الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ، كَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ سَوَاءً. وَحُكْمُ أَسِيرِهِمْ حُكْمُ أَسِيرِ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْغَدْرُ بِهِمْ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمُسْتَأْمَنُونَ، فَمَتَى اسْتَعَانُوا بِهِمْ فَأَعَانُوهُمْ، نَقَضُوا عَهْدَهُمْ، وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ، وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا، وَإِنْ ادَّعَوْا الْإِكْرَاهَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا أَعَانُوهُمْ، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ؛ أَحَدُهُمَا، يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ. صَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ. فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ، فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ، وَالْكَفِّ عَنْ أَسِيرِهِمْ، وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ، إلَّا أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا حَالَ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، وَهَؤُلَاءِ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذَلِكَ فِيهِمْ.
وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ، وَإِنْ ادَّعَوْا ذَلِكَ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا ظَنَنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَعَانَ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ. لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا؛ لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
[فَصْل إذَا ارْتَدَّ قَوْمٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ]
فَصْلٌ: وَإِذَا ارْتَدَّ قَوْمٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ، لَزِمَهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ، سَوَاءٌ تَحَيَّزُوا، أَوْ صَارُوا فِي مَنَعَةٍ، أَوْ لَمْ يَصِيرُوا. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ، فِيمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ تَضْمِينَهُمْ، يُؤَدِّي إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْبَغْيِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ، حِينَ رَجَعُوا: تَرُدُّونَ عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنَّا، وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ، وَأَنْ تَدُوا قَتْلَانَا، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ. قَالُوا: نَعَمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ مَا قُلْتَ كَمَا قُلْتَ، إلَّا أَنْ يَدُوا مَا قُتِلَ مِنَّا، فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاسْتُشْهِدُوا. وَلِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ.
فَأَمَّا الْقَتْلَى، فَحُكْمُهُمْ فِيهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلِأَنَّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ قَتَلَ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ الْأَسَدِيَّ، وَثَابِتَ بْنَ أَثْرَمَ، فَلَمْ يَغْرَمْهُمَا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute