فَإِنْ قِيلَ: فَعِنْدَكُمْ الدَّيْنُ الْحَالُ لَا يَتَأَجَّلُ، فَكَيْفَ يَتَأَجَّلُ عَلَى الضَّامِنِ؟ أَمْ كَيْفَ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ عَلَى غَيْرِ الْوَصْفِ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؟ قُلْنَا: الْحَقُّ يَتَأَجَّلُ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ، إذَا كَانَ بِعَقْدٍ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الضَّامِنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَيْهِ حَالًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ، فَضَمِنَهُ إلَى شَهْرَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ إلَى شَهْرَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الْحَالِ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّهُ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ رَجَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ هَاهُنَا، أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ إذْنٍ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَا يَرْجِعُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَضَمِنَهُ حَالًّا، لَمْ يَصِرْ حَالًّا، وَلَا يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرْعٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَوْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ تَعْجِيلَ هَذَا الدَّيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْجِيلُهُ، فَبِأَنْ لَا يَلْزَمَ الضَّامِنَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الْتِزَامُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ.
فَعَلَى هَذَا، إنْ قَضَاهُ حَالًّا، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَنْ تَأْجِيلِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلهَا، أَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، مُسْتَحَقُّ الْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ مُؤَجَّلًا فَقَدْ الْتَزَمَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَشْرَةً، فَضَمِنَ خَمْسَةً، وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ، فَلَا يُسْتَحَقُّ قَضَاؤُهُ إلَّا عِنْدَ أَجَلِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ حَالًّا الْتَزَمَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَشْرَةً فَضَمِنَ عِشْرِينَ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ضَمَانُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ حَالًّا، كَمَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَالِ مُؤَجَّلًا، قِيَاسًا لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِمَا يَمْنَعُ الْقِيَاسَ، إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
[فَصْلٌ ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا عَنْ إنْسَانٍ]
(٣٥٧٦) فَصْلٌ: وَإِذَا ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا عَنْ إنْسَانٍ، فَمَاتَ أَحَدَاهُمَا، إمَّا الضَّامِنُ وَإِمَّا الْمَضْمُونُ عَنْهُ، فَهَلْ يَحِلُّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. فَإِنْ قُلْنَا: يَحِلُّ عَلَى الْمَيِّتِ، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحِلُّ عَلَى شَخْصٍ بِمَوْتِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةَ الضَّامِنِ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، كَانَ مُتَبَرِّعًا بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ، وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ قَبْلَ الْأَجَلِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ قَضَى بِغَيْرِ إذْنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الضَّامِنَ، فَاسْتَوْفَى الْغَرِيمُ الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ حَتَّى يَحِلَّ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ زَفَرَ أَنَّ لَهُمْ مُطَالَبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute