أَحَدِهِمَا، فَتَرْكُ أَخَفِّهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ آكَدِهِمَا. وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَتَرَ أَتَى بِبَدَلٍ عَنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالسَّتْرُ لَا بَدَلَ لَهُ.
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ لَا تَتَضَمَّنُ تَرْكَ السُّتْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّتْرُ لَا يَحْصُلُ كُلُّهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْضُهُ، فَلَا يَفِي بِتَرْكِ الْقِيَامِ. قُلْنَا: إذَا قُلْنَا الْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ. فَقَدْ حَصَلَ السَّتْرُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْعَوْرَةُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَقَدْ حَصَلَ سَتْرُ آكَدِهَا وُجُوبًا فِي السَّتْرِ، وَأَفْحَشِهَا فِي النَّظَرِ، فَكَانَ سَتْرُهُ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَيْسَ عَلَى مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ إعَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ عَجَزَ عَنْهُ فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ صَلَّى الْعُرْيَانُ قَائِمًا، وَرَكَعَ وَسَجَدَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَقُعُودًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ قِيَامًا وَقُعُودًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي الْعُرَاةِ: يَقُومُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، إنْ تَوَارَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَّوْا قِيَامًا، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ لَهُ: فَيُومِئُونَ أَوْ يَسْجُدُونَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، السُّجُودُ لَا بُدَّ مِنْهُ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُومِئُ بِالسُّجُودِ فِي حَالٍ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْخَلْوَةِ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّ الْخَلَّالَ قَالَ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْ الْأَثْرَمِ. قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: يَقُومُ وَسَطَهُمْ. أَيْ يَكُونُ وَسَطَهُمْ، لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْقِيَامِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَنْبَغِي لِمَنْ صَلَّى عُرْيَانًا أَنْ يَضُمَّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، وَيَسْتُرَ مَا أَمْكَنَ سَتْرُهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَتَرَبَّعُونَ أَوْ يَتَضَامُّونَ؟ قَالَ: لَا بَلْ يَتَضَامُّونَ. وَإِذَا قُلْنَا: يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ. فَإِنَّهُمْ يَتَضَامُّونَ أَيْضًا. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ مَوْضِعَ الْقِيَامِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
[فَصْلٌ إذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ جِلْدًا طَاهِرًا أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفَهُ عَلَيْهِ]
(٨٢٣) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ جِلْدًا طَاهِرًا، أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفُهُ عَلَيْهِ، أَوْ حَشِيشًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْبِطَهُ عَلَيْهِ فَيَسْتُرَ بِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ بِطَاهِرٍ لَا يَضُرُّهُ فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى سَتْرِهَا بِثَوْبٍ، وَقَدْ «سَتَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْإِذْخِرِ» لَمَّا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً. فَإِنْ وَجَدَ طِينًا يَطْلِي بِهِ جَسَدَهُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِفُّ وَيَتَنَاثَرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً وَلَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ جَسَدَهُ وَمَا تَنَاثَرَ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَيَسْتَتِرُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةً، وَيَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ السَّتْرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَاءً لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَدِرًا، لِأَنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute