وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُلُّ مَا شَغَلَ فِكْرَهُ مِنْ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ، وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ، وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ، وَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ النُّعَاسِ، وَالْهَمِّ، وَالْغَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْفَرَحِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تَمْنَعُ الْحَاكِمَ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ، وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ، الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ. فَإِنْ حَكَمَ فِي الْغَضَبِ أَوْ مَا شَاكَلَهُ، فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي " الْمُجَرَّدِ ": يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَمَ إلَيْهِ الزُّبَيْرُ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجُدُرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَحَكَمَ فِي حَالِ غَضَبِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يَمْنَعُ الْغَضَبُ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا إنَّ اتَّضَحَ الْحُكْمُ، ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ، لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ اسْتَبَانَ قَبْلَ الْغَضَبِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْغَضَبُ فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ إذَا حَضَرَتْهُ قَضِيَّةٌ مُشْكِلَة]
(٨٢٣١) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ الْمُشْكِلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، شَاوَرَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَمَانَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَضَرَتْهُ قَضِيَّةٌ تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، حَكَمَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ؛ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ . قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ . قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الِاجْتِهَادِ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُشَاوِرَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩] . قَالَ الْحَسَنُ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَغَنِيًّا عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute