ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِطَعَامٍ فَأَكَلَهُ، أَوْ بِشَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ بِجَارِيَةٍ فَأَحْبَلَهَا، أَوْ أَوْلَدَهَا، أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا
وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّ بَيْعَهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَهُ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ، فَكَانَ رُجُوعًا، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ. وَإِنْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، أَوْ وَصَّى بِبَيْعِهِ، أَوْ أَوْجَبَ الْهِبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ وَصَّى بِإِعْتَاقِهِ، أَوْ دَبَّرَهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ لِلرُّجُوعِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِيجَابِهِ لِلْهِبَةِ، وَوَصِيَّتِهِ بِبَيْعِهِ أَوْ إعْتَاقِهِ، لِكَوْنِهِ وَصَّى بِمَا يُنَافِي الْوَصِيَّةَ الْأُولَى، وَالْكِتَابَةُ بَيْعٌ، وَالتَّدْبِيرُ أَقْوَى مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُنْجَزُ بِالْمَوْتِ، فَيَسْبِقُ أَخْذَ الْمُوصَى لَهُ
وَإِنْ رَهَنَهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِهِ حَقًّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْضِهِ عَلَى الْبَيْعِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَأَشْبَهَ إجَارَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْكِتَابَةِ.
[فَصْلٌ وَصَى بِحُبِّ ثُمَّ طَحَنَهُ أَوْ بِدَقِيقِ فَعَجَنَهُ فِي الْوَصِيَّة بِشَيْءِ مَعِين ثُمَّ خَلِّطْهُ بِغَيْرِهِ]
(٤٦٨٦) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِحَبٍّ ثُمَّ طَحَنَهُ، أَوْ بِدَقِيقٍ فَعَجَنَهُ، أَوْ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ، أَوْ بِخُبْزٍ فَفَتَّهُ، أَوْ جَعَلَهُ فَتِيتًا. كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ اسْمَهُ وَعَرَّضَهُ لِلِاسْتِعْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى رُجُوعِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَإِنْ وَصَّى بِكَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ فَغَزَلَهُ، أَوْ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ، أَوْ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ، أَوْ بِنَقْرَةٍ فَضَرَبَهَا، أَوْ شَاةٍ فَذَبَحَهَا، كَانَ رُجُوعًا. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الِاسْمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلِاسْتِعْمَالِ، فَكَانَ رُجُوعًا، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يُزِيلُ الِاسْمَ. فَإِنَّ الثَّوْبَ لَا يُسَمَّى غَزْلًا، وَالْغَزْلَ لَا يُسَمَّى كَتَّانًا.
[فَصْلٌ وَصَى بِشَيْءِ مَعِين ثُمَّ خَلِّطْهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْه لَا يَتَمَيَّز مِنْهُ]
(٤٦٨٧) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِذَلِكَ تَسْلِيمُهُ، فَيَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ. فَإِنْ خَلَطَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ. وَإِنْ وَصَّى بِقَفِيزِ قَمْحٍ مِنْ صُبْرَةٍ، ثُمَّ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَوْ دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشَاعًا. وَبَقِيَ مُشَاعًا. وَقِيلَ: إنْ خَلَطَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ خَيْرٍ مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ تَسْلِيمُ خَيْرٍ مِنْهُ، فَصَارَ مُتَعَذِّرَ التَّسْلِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ دُونَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute