[فَصْلٌ فَعَلَ الْمُحَارِبُ مَا يُوجِبُ حَدًّا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَارَبَةِ]
(٧٣٢٨) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ الْمُحَارِبُ مَا يُوجِبُ حَدًّا لَا يَخْتَصُّ الْمُحَارَبَةَ؛ كَالزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَقَطَتْ بِالتَّوْبَةِ، كَحَدِّ الْمُحَارَبَةِ، إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ؛ وَلِأَنَّ فِي إسْقَاطِهَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ الْمُحَارَبَةَ، فَكَانَتْ فِي حَقِّهِ كَهِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَإِنْ أَتَى حَدًّا قَبْلَ الْمُحَارَبَةِ، ثُمَّ حَارَبَ وَتَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِهَا الذَّنْبُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ.
[فَصْلٌ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَأَصْلَحَ]
(٧٣٢٩) فَصْلٌ: وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ، وَأَصْلَحَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: ١٦] . وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: ٣٩] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، كَحَدِّ الْمُحَارِبِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: ٢] وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» .
وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي سَرَقْت جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ، فَطَهِّرْنِي. وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدَّ عَلَيْهِمْ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ، كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِسُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ، فَهَلْ يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، أَوْ بِهَا مَعَ إصْلَاحِ الْعَمَلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute