وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ عَمْدٍ، فَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، كَالْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَجِنَايَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْخَطَأِ، لِكَوْنِ الْجَانِي مَعْذُورًا، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَمُوَاسَاةً لَهُ، وَالْعَامِدُ غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ وَلَا الْمُعَاوَنَةَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمُقْتَضِي. وَبِهَذَا فَارَقَ الْعَمْدُ الْخَطَأَ. ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ.
[فَصْلٌ اقْتَصَّ بِحَدِيدَةِ مَسْمُومَة فَسَرَّى إلَى النَّفْسِ]
(٦٧٩٦) فَصْلٌ: وَإِنْ اقْتَصَّ بِحَدِيدَةٍ مَسْمُومَةٍ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، أَشْبَهَ عَمْدَ الْخَطَأِ. وَالثَّانِي: لَا تَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِآلَةٍ يَقْتُلُ مِثْلُهَا غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا قِصَاصَ لَهُ. وَلَوْ وَكَّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَفْوِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ عَمَدَ قَتْلَهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِد الْجِنَايَةَ، وَمِثْلُ هَذَا يُعَدُّ خَطَأً، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا، فَإِنَّهُ عَمَدَ قَتْلَهُ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ.
[فَصْلٌ عَمْد الصَّبِيّ وَالْمَجْنُون خَطَأ تَحْمِلهُ الْعَاقِلَةُ]
(٦٧٩٧) فَصْلٌ: وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ يَجُوزُ تَأْدِيبُهُمَا عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ مِنْ الْبَالِغِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْقَصْدِ، فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، كَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، لِأَجْلِ الْعُذْرِ، فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ وَشِبْهَ الْعَمْدِ. وَبِهَذَا فَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ.
[الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الصُّلْحَ]
(٦٧٩٨) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الصُّلْحَ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ، فَيُنْكِرَهُ وَيُصَالِحَ الْمُدَّعِي عَلَى مَالٍ، فَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ بِمُصَالَحَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَاَلَّذِي ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنْ يُصَالِحَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إلَى الدِّيَةِ. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا عَمْدٌ، فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِذِكْرِ الْعَمْدِ. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الصُّلْحَ. ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ، أَدَّى إلَى أَنْ يُصَالِحَ بِمَالِ غَيْرِهِ، وَيُوجِبَ عَلَيْهِ حَقًّا بِقَوْلِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute