للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ صَلَّى بِهِمْ صَلَاة الْخَوْف مِنْ غَيْر خَوْف]

(١٤٥٧) فَصْلٌ: وَمَتَى صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ مُفَارِقِ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَتَارِكِ مُتَابَعَةِ إمَامِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ، أَوْ قَاصِرٍ لِلصَّلَاةِ مَعَ إتْمَامِ إمَامِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، إلَّا مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ. وَإِذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى إمَامًا بِمَنْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الثَّانِيَةِ تُبْنَى عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَقَدْ نَصَرْنَا جَوَازَهُ.

[مَسْأَلَةٌ كَانَ الْخَوْف شَدِيدًا وَهُمْ فِي حَالَ الْمُسَايَفَة]

(١٤٥٨) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ شَدِيدًا، وَهُمْ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، صَلَّوْا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا، يُومِئُونَ إيمَاءً، يَبْتَدِئُونَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ قَدَرُوا، أَوْ إلَى غَيْرِهَا) .

أَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يُصَلِّي مَعَ الْمُسَايَفَةِ، وَلَا مَعَ الْمَشْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَنَعَهَا مَعَهُ، كَالْحَدَثِ وَالصِّيَاحِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلِّي، وَلَكِنْ إنْ تَابَعَ الطَّعْنَ، أَوْ الضَّرْبَ، أَوْ الْمَشْيَ، أَوْ فَعَلَ مَا يَطُولُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ الْحَدَثَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: ٢٣٩] ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، صَلُّوا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَشْيِ إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِقَضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، وَهَذَا مَشْيٌ كَثِيرٌ، وَعَمَلٌ طَوِيلٌ، وَاسْتِدْبَارٌ لِلْقِبْلَةِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ الَّذِي لَيْسَ بِشَدِيدٍ، فَمَعَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ أَوْلَى.

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ دُونَ سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْعَمَلِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَسَوَّغَهُ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ، وَإِمْكَانِ الصَّلَاةِ بِدُونِهِ، ثُمَّ مَنَعَهُ فِي حَالٍ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ الْعَكْسُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرُّخْصَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إخْلَاءُ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَنْ فِعْلِهَا، كَالْمَرِيضِ، وَيَخُصُّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ عَمَلٌ أُبِيحَ مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ، فَلَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ بِهِ، كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ، وَالرُّكُوبِ، وَالْإِيمَاءِ.

وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ الْكَثِيرِ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي تَحْرِيمِهِ، أَوْ تَرْكُ الْقِتَالِ وَفِيهِ هَلَاكُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>