للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَالْمَقَابِرِ، وَالسِّقَايَاتِ وَسَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَرَجُلِ وَامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ أَوْ لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَا عَلَى مَعْصِيَةٍ كَبَيْتِ النَّارِ، وَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ بُنِيَتْ لِلْكُفْرِ.

وَهَذِهِ الْكُتُبُ مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أَلَمِ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟ لَوْ كَانَ مُوسَى أَخِي حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» . وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ مِنْهُ.

وَالْوَقْفُ عَلَى قَنَادِيلِ الْبِيعَةِ وَفَرْشِهَا وَمَنْ يَخْدِمُهَا وَيُعَمِّرُهَا، كَالْوَقْفِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِتَعْظِيمِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا

قَالَ أَحْمَدُ فِي نَصَارَى وَقَفُوا عَلَى الْبِيعَةِ ضِيَاعًا كَثِيرَةً، وَمَاتُوا وَلَهُمْ أَبْنَاءُ نَصَارَى، فَأَسْلَمُوا وَالضَّيَاعُ بِيَدِ النَّصَارَى: فَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَوْنُهُمْ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، لَا يَصِحُّ مِنْ الذِّمِّيِّ، كَالْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا عَقَدُوا عُقُودًا فَاسِدَةً، وَتَقَابَضُوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا، لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوهُ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمْ الرُّجُوعَ فِيمَا وَقَفُوهُ عَلَى كَنَائِسِهِمْ؟ قُلْنَا: الْوَقْفُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إزَالَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا، لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ كَالْعِتْقِ

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي نَصْرَانِيٍّ أَشْهَدَ فِي وَصِيَّتِهِ، أَنَّ غُلَامَهُ فُلَانًا يَخْدِمُ الْبِيعَةَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ. ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ، وَخَدَمَ سَنَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ، مَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: هُوَ حُرٌّ. وَيَرْجِعُ عَلَى الْغُلَامِ بِأُجْرَةِ خِدْمَةِ مَبْلَغِ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ، قَالَ: هُوَ حُرٌّ سَاعَةَ مَاتَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ وَأَوْفَقُ لِأُصُولِهِ

وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. لَمْ يَكُنْ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، بَلْ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ يَعْتَقِدَانِ صِحَّتَهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعِوَضُ بِإِسْلَامِهِ، كَانَ عَلَيْهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، كَذَا هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

[فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ]

(٤٤٣٤) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمَيِّتِ، وَالْحَمْلِ، وَالْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى مَمَالِيكِهِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ حَتَّى يَعْتِقَهُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَوَّزْتُمْ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَات وَأَشْبَاهِهَا، وَهِيَ لَا تُمْلَكُ

قُلْنَا: الْوَقْفُ هُنَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ عُيِّنَ فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. قُلْنَا: الْجِهَةُ الَّتِي عُيِّنَ صَرْفُ الْوَقْفِ فِيهَا لَيْسَتْ نَفْعًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>