لِأَنَّ تَكْرِيرَ التَّخْيِيرِ لَا يَزِيدُ بِهِ الْخِيَارُ، كَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي. فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي. هِيَ وَاحِدَةٌ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي، اخْتَارِي، اخْتَارِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا. وَنَحْوُهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ تَقْتَضِي طَلْقَةً، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ اقْتَضَتْ ثَلَاثًا، كَلَفْظَةِ الطَّلَاقِ.
[فَصْلٌ قَالَ لُزُوجَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك وَنَوَى عَدَدًا]
(٥٨٩٥) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لُزُوجَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك. وَنَوَى عَدَدًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى. وَإِنْ أَطْلَقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَمْ يَمْلِكْ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ وَكَّلَ أَجْنَبِيًّا، فَقَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتِي. فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك. وَنَوَى ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ كَانَ نَوَى وَاحِدَةً، فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَكُونُ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا، فَأَيُّهُمَا نَوَاهُ فَقَدْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَنَاوَلَ الْيَقِينَ، وَهُوَ الْوَاحِدَةُ. فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك، تَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ لِلطَّلَاقِ إلَيْهَا، فَتَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي.
وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي الطَّلَاقِ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. وَفَارَقَ: اخْتَارِي. فَإِنَّهُ تَخْيِيرٌ. وَمَا ذَكَرَهُ يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. وَلَهَا أَنْ تُوقِعَ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ، وَبِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تُوقِعَهُ بِالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إلَيْهَا بِلَفْظِ الصَّرِيحِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُوقِعَ غَيْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الطَّلَاقَ، وَقَدْ أَوْقَعَتْهُ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ أَوْقَعَتْهُ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ. وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ فِي شَيْءٍ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إيقَاعُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ مِنْ جِهَتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ دَارِي. جَازَ لَهُ بَيْعُهَا بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي ثَلَاثًا فَطَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَقَعَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْتَثِلْ أَمَرَهُ.
وَلَنَا، أَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ ثَلَاثٍ، فَمَلَكَتْ إيقَاعَ وَاحِدَةٍ، كَالْمُوَكَّلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَهَبْتُك هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ. فَقَالَتْ: قَبِلْت وَاحِدًا مِنْهُمْ. صَحَّ. كَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ قَالَ: طَلِّقِي وَاحِدَةً. فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِمَا يَصْلُحُ قَبُولًا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ. فَقَالَ: قَبِلْت الْبِيعَةَ فِي جَمِيعِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute