وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ غَصَبَ شَيْئًا، فَبَعَّدَهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَإِنْ غَرِمَ عَلَيْهِ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى بِتَبْعِيدِهِ، فَكَانَ ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ: خُذْ مِنِّي أَجْرَ رَدِّهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي هَاهُنَا. أَوْ بَذَلَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْتَرِدُّهُ، لَمْ يَلْزَمْ الْمَالِكَ قَبُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ: دَعْهُ لِي فِي مَكَانِهِ الَّذِي نَقَلْتَهُ إلَيْهِ. لَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُ حَقًّا فَسَقَطَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: رُدَّهُ لِي إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ. لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَسَافَةِ، فَلَزِمَهُ بَعْضُهَا الْمَطْلُوبُ، وَسَقَطَ عَنْهُ مَا أَسْقَطَهُ.
وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ حَمْلَهُ إلَى مَكَان آخَرَ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الرَّدِّ، لَمْ يَلْزَمْ الْغَاصِبَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ. وَإِنْ قَالَ: دَعْهُ فِي مَكَانِهِ، وَأَعْطِنِي أَجْرَ رَدِّهِ. لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إجَابَتِهِ؛ لِذَلِكَ. وَمَهْمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا.
[فَصْلٌ غَصَبَ شَيْئًا فَشَغَلَهُ بِمِلْكِهِ كَخَيْطٍ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَهُ]
(٣٩٨٤) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ شَيْئًا، فَشَغَلَهُ بِمِلْكِهِ، كَخَيْطٍ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا، أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ حَجَرًا بَنَى عَلَيْهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ بَلِيَ الْخَيْطُ، أَوْ انْكَسَرَ الْحَجَرُ، أَوْ كَانَ مَكَانَهُ خَشَبَةٌ فَتَلِفَتْ، لَمْ يَأْخُذْ بِرَدِّهِ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ هَالِكًا، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْبِنَاءُ، وَتَفَصَّلَ الثَّوْبُ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ رَدُّ الْخَشَبَةِ وَالْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِمِلْكِهِ يَسْتَضِرُّ بِقَلْعِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ جُرْحَ عَبْدِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَمْكَنَ رَدُّهُ، وَيَحُوزُ لَهُ فَوَجَبَ، كَمَا لَوْ بَعَّدَ الْعَيْنَ، وَلَا يُشْبِهُ الْخَيْطَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ، لِمَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ تَلَفِ الْآدَمِيِّ.
وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ تُبِيحُ أَخْذَهُ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ خَاطَ بِالْخَيْطِ جُرْحَ حَيَوَانٍ، فَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ لَا حُرْمَةَ لَهُ، كَالْمُرْتَدِّ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَيَجِبُ نَزْعُهُ وَرَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَفْوِيتَ ذِي حُرْمَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا. وَالثَّانِي، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، كَالْآدَمِيِّ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهِ الْهَلَاكُ أَوْ إبْطَاءُ بُرْئِهِ، فَلَا يَجِبُ نَزْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ آكَدُ حُرْمَةً مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَالِ غَيْرِهِ لِيَحْفَظَ حَيَاتَهُ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ لِتَبْقِيَتِهِ وَهُوَ مَا يَأْكُلُهُ. وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute