كَانَ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ يَوْمَ قَتْلِ وَلِيِّي، وَكَانَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ فِيهِ. بَطَلَتْ الْقَسَامَةُ، وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ. وَإِنْ قَالَ: مَا أَخَذْتُهُ حَرَامٌ. سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّنِي كَذَبْت فِي دَعْوَايَ عَلَيْهِ. بَطَلَتْ قَسَامَتُهُ أَيْضًا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ الْأَيْمَانَ تَكُونُ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. لَمْ تَبْطُلْ الْقَسَامَةُ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا مَغْصُوبٌ. وَأَقَرَّ بِمَنْ غَصَبَ مِنْهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِأَحَدٍ، لَمْ تُرْفَعْ يَدُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ.
[فَصْلٌ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَة أَنَّهُ كَانَ يَوْم الْقَتْلِ فِي بَلَد بَعِيدِ مِنْ بَلَد الْمَقْتُول]
(٧٠٢٠) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ، لَا يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، بَطَلَتْ الدَّعْوَى. وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْهُ. لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُجَرَّدٌ. فَإِنْ قَالَا: مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، بَلْ قَتَلَهُ فُلَانٌ. سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ بِإِثْبَاتٍ تَضَمَّنَ النَّفْيَ، فَسُمِعَتْ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ.
[فَصْلٌ جَاءَ رَجُل فَقَالَ مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ أَنَا قَتَلَتْهُ]
فَصْلٌ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ أَنَا قَتَلْتُهُ. فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُلْ دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إنْ كَانَ أَخَذَهَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَنْ يُكَذِّبُهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ، أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجَبِ الْقَتْلِ، لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ بِبُطْلَانِ الدَّعْوَى. وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ مُطَالَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِحَقٍّ، فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ بِهِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ؛ إبْرَاءٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ مَنْ أَبْرَأَهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُمَا، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الثَّانِي بِالدِّيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالْقَتْلِ، فَأُخِذَ لِيُقَادَ مِنْهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ هَذَا، أَنَا قَتَلْتُهُ: فَالْقَوَدُ يَسْقُطُ عَنْهُمَا، وَالدِّيَةُ عَلَى الثَّانِي.
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ، أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ رَجُلًا فِي خَرِبَةٍ، وَتَرَكَهُ وَهَرَبَ، وَكَانَ قَصَّابٌ قَدْ ذَبَحَ شَاةً، وَأَرَادَ ذَبْحَ أُخْرَى، فَهَرَبَتْ مِنْهُ إلَى الْخَرِبَةِ، فَتَبِعَهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْقَتِيلِ، وَالسِّكِّينُ بِيَدِهِ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ، فَأُخِذَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَجِيءَ بِهِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْقَاتِلُ فِي نَفْسِهِ: يَا وَيْلَهُ، قَتَلْت نَفْسًا، وَيُقْتَلُ بِسَبَبِي آخَرُ فَقَامَ فَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: إنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا فَقَدْ أَحْيَا نَفْسًا. وَدَرَأَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute