لِلْمُحْصَرِ نَحْرُ هَدْيِهِ إلَّا فِي الْحَرَمِ، فَيَبْعَثُهُ، وَيُوَاطِئُ رَجُلًا عَلَى نَحْرِهِ فِي وَقْتٍ يَتَحَلَّلُ فِيهِ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي مَنْ لُدِغَ فِي الطَّرِيقِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ.
وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فِي مَنْ كَانَ حَصْرُهُ خَاصًّا، وَأَمَّا الْحَصْرُ الْعَامُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعَذُّرِ الْحِلِّ، لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْهَدْيِ إلَى مَحِلِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ نَحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ حَلَقُوا، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إلَى الْبَيْتِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَعُودُوا لَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ هَدْيَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيرَةِ وَالنَّقْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: ٢٥] . وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ حِلِّهِ، فَكَانَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ، كَالْحَرَمِ، وَسَائِرُ الْهَدَايَا يَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ نَحْرُهَا فِي مَوْضِعِ تَحَلُّلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: ١٩٦] .
وَقَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٣٣] . وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. قُلْنَا: الْآيَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَرِ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْمُحْصَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ، وَتَحَلُّلَ غَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْحَرُ فِي مَوْضِعِ تَحَلُّلِهِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: ١٩٦] . أَيْ حَتَّى يُذْبَحَ، وَذَبْحُهُ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فِي مَوْضِعِ حِلِّهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فَصْل مَتَى كَانَ الْمُحْصَرُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَلَهُ التَّحَلُّلُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ]
(٢٤٢٩) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَ الْمُحْصَرُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَلُّوا وَنَحَرُوا هَدَايَاهُمْ بِهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، فَكَذَلِكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَجَازَ الْحِلُّ مِنْهُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ، كَالْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُ، وَجَمِيعُ الزَّمَانِ وَقْتٌ لَهَا، فَإِذَا جَازَ الْحِلُّ مِنْهَا وَنَحْرُ هَدْيِهَا مِنْ غَيْرِ خَشْيَةِ فَوَاتِهَا، فَالْحَجُّ الَّذِي يُخْشَى فَوَاتُهُ أَوْلَى.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَحِلُّ، وَلَا يَنْحَرُ هَدْيَهُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَحَنْبَلٍ؛ لِأَنَّ لِلْهَدْيِ مَحِلَّ زَمَانٍ وَمَحِلَّ مَكَان. فَإِنْ عَجَزَ مَحِلُّ الْمَكَانِ فَسَقَطَ، بَقِيَ مَحِلُّ الزَّمَانِ وَاجِبًا لِإِمْكَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَمْ يَجُزْ التَّحَلُّلُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: ١٩٦] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute