أَمَّا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِمَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُمَا، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ قَوْمَهُ: أَمَجْنُونٌ هُوَ؟ قَالُوا: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» .
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ: أَبِكَ جُنُونٌ؟» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَاسْتَشَارَ فِيهَا أُنَاسًا فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ، فَمَرَّ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ . قَالُوا: مَجْنُونَةُ آلِ فُلَانٍ زَنَتْ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ. فَقَالَ: ارْجِعُوا بِهَا. ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَالُ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ. قَالَ: فَأَرْسِلْهَا فَأَرْسَلَهَا. قَالَ: فَجَعَلَ عُمَرُ يُكَبِّرُ.
[فَصْلٌ كَانَ الْمُقِرّ بِالزِّنَا يَجْنِ مَرَّة وَيُفِيق أُخْرَى]
(٧١٧٧) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، فَأَقَرَّ فِي إفَاقَتِهِ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُفِيقٌ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ زَنَى فِي إفَاقَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ وُجِدَ مِنْهُ فِي حَالِ تَكْلِيفِهِ، وَالْقَلَمُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ، وَإِقْرَارُهُ وُجِدَ فِي حَالِ اعْتِبَارِ كَلَامِهِ. فَإِنْ أَقَرَّ فِي إفَاقَتِهِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى حَالٍ، أَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالزِّنَى، وَلَمْ تُضِفْهُ إلَى حَالِ إفَاقَتِهِ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَالِ جُنُونِهِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي حَدِيثِ الْمَجْنُونَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا عُمَرُ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إنَّ هَذِهِ مَعْتُوهَةُ بَنِي فُلَانٍ، لَعَلَّ الَّذِي أَتَاهَا أَتَاهَا فِي بَلَائِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَأَنَا لَا أَدْرِي.
[فَصْلٌ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَى حَالَ نَوْمِهِ]
(٧١٧٨) فَصْلٌ: وَالنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، فَلَوْ زَنَى بِنَائِمَةٍ، أَوْ اسْتَدْخَلَتْ امْرَأَةٌ ذَكَرَ نَائِمٍ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَى حَالَ نَوْمِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي حَالِ نَوْمِهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَدْلُولِهِ. فَأَمَّا السَّكْرَانُ وَنَحْوُهُ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي سُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ؛ لِكَوْنِ السُّكْرِ مَظِنَّةً لَهَا، وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ بِسَبَبٍ لَا يُعْذَرُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ فِي رِوَايَةٍ، فَأَشْبَهَ النَّائِمَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute