وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا مِنْ بَلَدِ الْإِمَامِ، يَسْتَفِيضُ إلَيْهِ مَا يَجْرِي فِي بَلَدِ الْإِمَامِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ أَوْ مَا دُونَهَا، جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِفَاضَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ فِي الْبَلَدِ الْقَرِيبِ وَجْهَيْنِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّى عَلِيًّا وَمُعَاذًا قَضَاءَ الْيَمَنِ وَهُوَ بَعِيدٌ، مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ، وَوَلَّى الْوُلَاةَ فِي الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ وَفَوَّضَ إلَيْهِمْ الْوِلَايَةَ وَالْقَضَاءَ، وَلَمْ يُشْهِدْ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْإِشْهَادُ عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، مَعَ بُعْدِ بُلْدَانِهِمْ.
وَلَنَا، أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَعَذَّرَتْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي الْبَلَدِ الْبَعِيدِ؛ لِعَدَمِ وُصُولِهَا إلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ الْإِشْهَادُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشْهِدْ عَلَى تَوْلِيَتِهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ وَالِيًا إلَّا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ، وَعَدَمُ نَقْلِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ فِعْلِهِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُهُ فَتَعَيَّنَ وُجُودُهُ.
[يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ]
(٨٢٢١) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وَلَا يُوَلَّى قَاضٍ حَتَّى يَكُونَ بَالِغًا، عَاقِلًا، مُسْلِمًا، حُرًّا، عَدْلًا، عَالِمًا، فَقِيهًا، وَرِعًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، الْكَمَالُ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ كَمَالُ الْأَحْكَامِ، وَكَمَالُ الْخِلْقَةِ، أَمَّا كَمَالُ الْأَحْكَامِ فَيُعْتَبَرُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا ذَكَرًا.
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً فِي غَيْرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَاهِدَةً فِيهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» . وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ يَحْضُرُ مَحَافِلَ الْخُصُومِ وَالرِّجَالِ، وَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَمَالِ الرَّأْيِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ، وَالْمَرْأَةُ نَاقِصَةُ الْعَقْلِ، قَلِيلَةُ الرَّأْيِ، لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْحُضُورِ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَلْفُ امْرَأَةٍ مِثْلِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِنَّ وَنِسْيَانِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: ٢٨٢] وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلَا لِتَوْلِيَةِ الْبُلْدَانِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوَلِّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، امْرَأَةً قَضَاءً وَلَا وِلَايَةَ بَلَدٍ، فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ جَمِيعُ الزَّمَانِ غَالِبًا.
وَأَمَّا كَمَالُ الْخِلْقَةِ، فَأَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِالْحُكْمِ، وَلَا يَفْهَمُ جَمِيعُ النَّاسِ إشَارَتَهُ، وَالْأَصَمُّ لَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرَّ لَهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute