للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَحْمِلْ عَقْلَهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ مَوَالِيَ الْأُمِّ قَدْ زَالَ وَلَاؤُهُمْ عَنْهُ قَبْلَ قَتْلِهِ، وَمَوَالِي الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ حَالَ جِنَايَتِهِ، فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْشُ الْجُرْحِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ مُنْفَرِدًا، فَيُخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

[فَصْلٌ جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسه خَطَأ أَوْ عَلِيّ أَطْرَافه]

(٦٨٠٧) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً، أَوْ عَلَى أَطْرَافِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ الْقَاضِي: أَظْهَرُهُمَا أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ إنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ أَرْشَ جُرْحِهِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَاقَ حِمَارًا فَضَرَبَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فَطَارَتْ مِنْهَا شَظِيَّةٌ، فَأَصَابَتْ عَيْنَهُ فَفَقَأَتْهَا فَجَعَلَ عُمَرُ، دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَالَ: هِيَ يَدٌ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُصِبْهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ. وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، فَكَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ.

فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا، سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ، وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَهُ مَا بَقِيَ إنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، جِنَايَتُهُ هَدْرٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَاتَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، كَالْعَمْدِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا كَانَ مُوَاسَاةً لِلْجَانِي، وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ فِيهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، لَأَجْحَفَ بِهِ وُجُوبُ الدِّيَةِ لِكَثْرَتِهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ شِبْهَ عَمْدٍ، فَهَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ كَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيه فِيمَا إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْعَمْدَ الْمَحْضَ.

[فَصْلٌ خَطَأ الْإِمَام وَالْحَاكِم فِي غَيْر الْحَكَم وَالِاجْتِهَاد]

(٦٨٠٨) فَصْلٌ: وَأَمَّا، خَطَأُ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ وَالِاجْتِهَادِ، فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ، إذَا كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا حَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ أَيْضًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَعَثَ إلَى امْرَأَةٍ ذُكِرَتْ بِسُوءٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>