وَالثَّانِيَةُ، لَا تُضْمَنُ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ، وَهِيَ الشَّفْرَةُ، فَأَتَيْته بِهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا فَأُرْهِفَتْ، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا، وَقَالَ: اُغْدُ عَلَيَّ بِهَا فَفَعَلْت، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا زِقَاقُ الْخَمْرِ قَدْ جُلِبَتْ مِنْ الشَّامِ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي، فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ كُلِّهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي، وَيُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْأَسْوَاقَ كُلَّهَا، فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إلَّا شَقَقْته، فَفَعَلْت، فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إلَّا شَقَقْته» .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنْت أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ، شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ، فَأَتَانَا آتٍ، فَقَالَ: إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الدِّنَانِ فَاكْسِرْهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ حُرْمَتِهَا، وَإِبَاحَةِ إتْلَافِهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ.
[فَصْلٌ الْغَصْبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالِ كَالْحُرِّ]
(٤٠٠٣) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ الْغَصْبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْحُرِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ. وَإِنْ أَخَذَ حُرًّا، فَحَبَسَهُ فَمَاتَ عِنْدَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ مُكْرَهًا، لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ.
وَإِنْ حَبَسَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ أَجْرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهُ، وَهِيَ مَالٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، فَضَمِنَتْ بِالْغَصْبِ، كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يَصِحُّ غَصْبُهُ، فَأَشْبَهَتْ ثِيَابَهُ إذَا بَلِيَتْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ، وَلِأَنَّهَا تَلِفَتْ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ، لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْعَبْدِ لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ، فَالْحُرُّ أَوْلَى. وَلَوْ حَبَسَ الْحُرَّ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَمْ تَثْبُتْ الْيَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
[فَصْلٌ أُمّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ]
(٤٠٠٤) فَصْلٌ: وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُضْمَنُ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّ. وَلَنَا، أَنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، كَالْقِنِّ، وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ، وَفَارَقَتْ الْحُرَّةَ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute