وَأَمَّا الثَّعَالِبُ فَيُبْنَى حُكْمُهَا عَلَى حِلِّهَا، وَفِيهَا رِوَايَتَانِ، كَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي جُلُودِهَا؛ فَإِنْ قُلْنَا بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ، فَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَمُحَرَّمَةٌ، وَهَلْ تَطْهُرُ جُلُودُهَا بِالدِّبَاغِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. (٧٦) فَصْلٌ: إذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغِ لَمْ يَطْهُرْ مِنْهَا جِلْدُ مَا لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَطْهُرُ إلَّا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» . فَشَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ؛ وَالذَّكَاةُ إنَّمَا تُعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُطَهِّرَيْنِ لِلْجِلْدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي غَيْرِ مَأْكُولٍ كَالذَّبْحِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ كُلَّ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» يَتَنَاوَلُ الْمَأْكُولَ وَغَيْرَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي الْحَيَاةِ؛ لِكَوْنِ الدَّبْغِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ نَجَاسَةٍ حَادِثَةٍ بِالْمَوْتِ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ.
وَحَدِيثُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالذَّكَاةِ التَّطْيِيبَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ، أَيْ: طَيِّبَةٌ وَهَذَا يُطَيِّبُ الْجَمِيعَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا: أَنَّهُ أَضَافَ الذَّكَاةَ إلَى الْجِلْدِ خَاصَّةً، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْجِلْدُ هُوَ تَطْيِيبُهُ وَطَهَارَتُهُ، أَمَّا الذَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الذَّبْحُ، فَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالذَّكَاةِ الطَّهَارَةَ، فَسَمَّى الطَّهَارَةَ ذَكَاةٌ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا فِي كُلِّ جِلْدٍ، فَيَتَنَاوَلُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ.
[فَصْلٌ أَكْلُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدَّبْغِ]
(٧٧) فَصْلٌ: وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ: أَنَّهُ يَحِلُّ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي الْجِلْدِ، فَأَبَاحَ الْأَكْلَ كَالذَّبْحِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] ، وَالْجِلْدُ مِنْهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ، فَحَرُمَ أَكْلُهُ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إبَاحَةُ الْأَكْلِ، بِدَلِيلِ الْخَبَائِثِ مِمَّا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ لَا يُسْمَعُ قِيَاسُهُمْ فِي تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (٧٨) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِجَارَتُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيهِ، سِوَى الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ دَبْغِهِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ، مُتَّفَقٌ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute