لَا يُفْطِرُ بِمَا لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْبَرْدَ فِي الصَّوْمِ، وَيَقُولُ: لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ. وَلَعَلَّ مِنْ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا حَرَّمَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، فَمَا عَدَاهُمَا يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.
وَلَنَا دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا.
[فَصْلُ الْحِجَامَةَ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ]
(٢٠١٩) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّ الْحِجَامَةَ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَكَانَ الْحَسَنُ، وَمَسْرُوقٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، لَا يَرَوْنَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ.
وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَحْتَجِمُونَ لَيْلًا فِي الصَّوْمِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ، وَلَا يُفْطِرُ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» . وَلِأَنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْبَدَنِ، أَشْبَهَ الْفَصْدَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ.» رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ رَافِعٍ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ: حَدِيثُ شَدَّادٍ وَثَوْبَانِ صَحِيحَانِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ شَدَّادٍ وَثَوْبَانِ. وَحَدِيثُهُمْ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِنَا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَاحَّةِ بِقَرْنٍ وَنَابٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ، فَوَجَدَ لِذَلِكَ ضَعْفًا شَدِيدًا، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْتَجِمَ الصَّائِمُ» . رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْمُتَرْجَمِ،
وَعَنْ الْحَكَمِ، قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَائِمٌ» فَضَعُفَ، ثُمَّ كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِهِمْ، يُعِدُّ الْحَجَّامَ وَالْمَحَاجِمَ، فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ احْتَجَمَ بِاللَّيْلِ. كَذَلِكَ رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ نَسْخَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فَأَفْطَرَ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «قَاءَ فَأَفْطَرَ» فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى الْحَاجِمَ وَالْمُحْتَجِمَ يَغْتَابَانِ» فَقَالَ ذَلِكَ، قُلْنَا: لَمْ تَثْبُتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute