وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ عَقْدٌ تَضَمَّنَ إيجَابَ مَالٍ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنٍ، كَالنِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ صَحَّ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ تَعَلُّقُ الْمَالِ بِرَقَبَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّد. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَاسْتِدَانَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الضَّمَانِ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ، صَحَّ، وَيَكُونُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِ الْعَبْدِ، كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، كَمَا لَوْ قَالَ الْحُرُّ: ضَمِنْت لَك الدَّيْنَ، عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِي هَذَا. صَحَّ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ، فَأَشْبَهَ نَذْرَ الصَّدَقَةَ بِغَيْرِ مَالٍ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، كَقَوْلِنَا فِي الْعَبْدِ. وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إلَى تَفْوِيتِ الْحُرِّيَّةِ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا. فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ غَيْرَ مَخُوفٍ، أَوْ غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ، فَحُكْمُ ضَمَانِهِ حُكْمُ تَبَرُّعِهِ، يَحْسِبُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ عِوَضًا، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ.
وَإِذَا فُهِمَتْ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ، صَحَّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ وَتَبَرُّعُهُ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَالنَّاطِقِ، وَلَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِكِتَابَةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ إشَارَةٍ يُفْهَمُ بِهَا أَنَّهُ قَصَدَ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ عَبَثًا أَوْ تَجْرِبَةً، فَلَمْ يَثْبُتْ الضَّمَانُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَمَنْ لَا تُفْهَمُ إشَارَتُهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِضَمَانِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُهُ.
[فَصْلٌ ضَمِنَ الدَّيْنَ الْحَالَ مُؤَجَّلًا]
(٣٥٧٥) فَصْلٌ: إذَا ضَمِنَ الدَّيْنَ الْحَالَ مُؤَجَّلًا، صَحَّ، وَيَكُونُ حَالًّا عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ مُؤَجَّلًا عَلَى الضَّامِنِ، يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ ضَمِنَ مَا عَلَى فُلَانٍ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ: فَهُوَ عَلَيْهِ، وَيُؤَدِّيَهُ كَمَا ضَمِنَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقَنَّكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ، فَجَرَّهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمْ تَسْتَنْظِرْهُ؟ قَالَ: شَهْرًا. قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَنَا أَحْمِلُ. فَجَاءَ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ أَصَبْت هَذَا؟ قَالَ: مِنْ مَعْدِنٍ. قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا. وَقَضَاهَا عَنْهُ» .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا بِعَقْدٍ مُؤَجَّلٍ، فَكَانَ مُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ.