وَقَالَ الْقَاضِي: تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ فِي الْحَالِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَفْعَلْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَهُ، فَمَاتَتْ قَبْلَ طَلَاقِهَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ اسْتِحَالَتَهُ أَوْ لَا يَعْلَمَ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَاءَ فِيهِ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا، وَهُوَ مَيِّتٌ، فَهُوَ كَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ فَيَقْتُلَهُ، وَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ حَلَفَ لَأَقْتُلَنَّ الْمَيِّتَ. يَعْنِي فِي حَالِ مَوْتِهِ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، فَيَكُونُ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ.
[فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا فَأَحْنَثَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ]
(٨٠١٥) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا، أَوْ لَا يَفْعَلُ. أَوْ حَلَفَ عَلَى حَاضِرٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا. فَأَحْنَثَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْحَانِثُ، فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِمَا يُحْنِثُهُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ إمَّا الْيَمِينُ، وَإِمَّا الْحِنْثُ، أَوْ هُمَا، وَأَيُّ ذَلِكَ قُدِّرَ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِفِ. وَإِنْ قَالَ: أَسْأَلُك بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. وَأَرَادَ الْيَمِينَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا.
وَإِنْ أَرَادَ الشَّفَاعَةَ إلَيْهِ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. فَهِيَ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يَصْرِفُهَا، وَإِنْ قَالَ بِاَللَّهِ أَفْعَلُ. فَلَيْسَتْ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا بِجَوَابِ الْقَسَمَ، وَلِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ أَفْعَلُ. وَلَا: بِاَللَّهِ أَفْعَلُ. وَإِنَّمَا صَلَحَ ذَلِكَ فِي التَّاءِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْقَسَمِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ. (٨٠١٦) فَصْلٌ: وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُخْبِرَنِّي بِمَا أَصَبْت مِمَّا أَخْطَأْت.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُقْسِمْ يَا أَبَا بَكْرٍ» وَلَمْ يُخْبِرْهُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إبْرَارُهُ لَأَخْبَرَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ إبْرَارُهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، وَيَكُونُ امْتِنَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إبْرَارِ أَبِي بَكْرٍ لِمَا عَلِمَ مِنْ الضَّرَرِ فِيهِ. وَإِنْ أَجَابَهُ إلَى صُورَةِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ دُونَ مَعْنَاهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَعْنَى، فَحَسَنٌ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْعَبَّاسَ جَاءَهُ بِرَجُلٍ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» .
وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُبَايِعَنَّهُ. فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: «أَبْرَرْت قَسَمَ عَمِّي، وَلَا هِجْرَةَ» . وَأَجَابَهُ إلَى صُورَةِ الْمُبَايَعَةِ، دُونَ مَا قَصَدَ بِيَمِينِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute