كَانَ بَيْنَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ السَّعْيُ إلَيْهِ، وَحَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ وَاجْتَمَعَتْ فِيهِمْ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ، فَعَلَيْهِمْ إقَامَتُهَا، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْمِصْرِ، وَبَيْنَ إقَامَتِهَا فِي قَرْيَتِهِمْ، وَالْأَفْضَلُ إقَامَتُهَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى سَعَى بَعْضُهُمْ أَخَلَّ عَلَى الْبَاقِينَ الْجُمُعَةَ، وَإِذَا أَقَامُوا حَضَرَهَا جَمِيعُهُمْ، وَفِي إقَامَتِهَا بِمَوْضِعِهِمْ تَكْثِيرُ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا، وَالْأَفْضَلُ السَّعْيُ إلَيْهَا، لِيَنَالَ فَضْلَ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَالْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ، فَيُنْظَرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ، لِمَا قَدَّمْنَا.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِنْهُمْ قَرْيَةً أُخْرَى، لَمْ يَلْزَمْهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا، وَصَلَّوْا فِي مَكَانِهِمْ، إذْ لَيْسَتْ إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى.
وَإِنْ أَحَبُّوا السَّعْيَ إلَيْهَا، جَازَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَكَانِهِمْ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. فَإِنْ سَعَى بَعْضُهُمْ فَنَقَصَ عَدَدُ الْبَاقِينَ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِصْرًا، فَهُمْ مُخَيَّرُونَ أَيْضًا بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْمِصْرِ، وَبَيْنَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِمْ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا.
ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ السَّعْيَ يَلْزَمُهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ فَيُصَلُّونَ جُمُعَةً. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ جُمُعَةُ أَهْلِ الْمِصْرِ، فَكَانَ لَهُمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِمْ، كَمَا لَوْ سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنْ قَرْيَةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى يُقِيمُونَ الْجُمَعَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ الْمِصْرِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
[فَصْلٌ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ بِأَقَلَّ مِنْ الْأَرْبَعِينَ]
(١٣٨٥) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْمِصْرِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَجَاءَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، فَأَقَامُوا الْجُمُعَةَ فِي الْمِصْرِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْمِصْرِ، وَأَهْلُ الْمِصْرِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ لِقِلَّتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ لَزِمَ أَهْلَ الْمِصْرِ السَّعْيُ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ أَقَلُّ مِنْ فَرْسَخٍ، فَلَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا، كَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ السَّعْيُ إلَى الْمِصْرِ إذَا أُقِيمَتْ بِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ.
وَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، لَمْ يَجُزْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
[فَصْلٌ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا]
(١٣٨٦) فَصْلٌ: وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ.
وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مُسَافِرٍ يَسْمَعُ أَذَانَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ أَسْرَجَ دَابَّتَهُ، فَقَالَ: لِيَمْضِ فِي سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْجُمُعَةُ لَا تَحْبِسُ عَنْ سَفَرٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، لَا يُصْحَبُ فِي سَفَرِهِ، وَلَا يُعَانُ عَلَى حَاجَتِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ.